يخوض لاعب الكريكيت الأشهر في العالم عمران خان نيازي (70 عاماً) مغامرته الأخيرة مع الجيش الباكستاني الحاكم الحقيقي لباكستان منذ انفصال البلاد عن الهند عام 1947. فرئيس الحكومة السابق، الذي أسّس حزب حركة الإنصاف عام 1996، ودخل البرلمان للمرّة الأولى عام 2002، ووصل إلى رئاسة الحكومة عام 2018 بعد صراع طويل وبدعم من قائد الجيش قمر جافد باجوه (2016-2022) إثر فوز حزبه في الانتخابات العامّة في ذلك العام، يواجه الآن مصيراً مشابهاً إمّا لمصير بينازير بوتو رئيسة الحكومة السابقة التي اغتيلت وسط أنصارها عام 2007، أو مصير نواز شريف رئيس الحكومة السابق الذي يعيش في المنفى بلندن، بعدما أُقيل من منصبه بتهمة الفساد.
المفارقة في حالة عمران خان أنّه لا ينتمي إلى أسرة سياسية تقليدية، بل هو من أسرة معروفة من جهة الأمّ بلعبة الكريكيت الإنكليزية المنشأ، والشبيهة بلعبة البيسبول الأميركية.
فيما كان السياسيون المحترفون في باكستان، ولا سيما رئيسي الحكومة ذو الفقار علي بوتو (أُعدم شنقاً عام 1979) وابنته بينازير (حزب الشعب) من إقليم السند، ونواز شريف (حزب الرابطة الإسلامية) من إقليم البنجاب، يلعبون الكريكيت السياسي الشاقّ مع الجيش، على مدى عشرات السنين، ويواجهون الاحتمالات القصوى: كرسي الحكم أو المنفى أو الإعدام والاغتيال، كان عمران خان المدلّل يدرس في أرقى مدارس النخبة في باكستان وأفضل جامعات بريطانيا، ويلعب الكريكيت خلال دراسة الفلسفة والسياسة والاقتصاد في جامعة أكسفورد. وقد لعب مع الفريق الباكستاني للمرّة الأولى عام 1971، وأصبح عضواً ثابتاً فيه إثر تخرّجه من أكسفورد عام 1976 إلى أن صار نجماً مشهوراً في باكستان والعالم بعد قيادته الفريق الوطني الباكستاني إلى الفوز ببطولة العالم في هذه اللعبة عام 1992.
بدا عمران خان سياسياً غير تقليدي، يكافح الفساد، ونصيراً للفقراء بحيث ارتكزت فلسفة حزبه “حركة إنصاف” على إنصاف الشرائح المحرومة في المجتمع
بلغ ذروة الشهرة في حياة اللهو التي عاشها في بريطانيا، حيث كان في بؤرة الاهتمام الإعلامي. وزاد عليها زواجه عام 1995 من جيميما غولدسميث Jemima Goldsmith ابنة السير جيمس أحد أغنى رجال العالم. أمّا النقلة إلى عالم السياسة، فكانت عبر انغماسه في العمل الخيري أوّلاً، حين نشط في جمع التبرّعات لمستشفى شوكت خانم للسرطان، وهو على اسم والدته المتوفّاة بالسرطان عام 1985.
بعد ذلك طرق أبواب السياسة معارضاً شرساً لحكم الرئيس السابق برويز مشرف (توفّي عام 2023)، ورئيس الوزراء السابق نواز شريف، وهو ما جعله لاعباً غير تقليدي في المستنقع الآسن للسياسة التقليدية الباكستانية حيث لا يوجد لاعب حقيقي إلا الجيش والاستخبارات، فيما يلهو السياسيون في دائرة مغلقة منذ الانفصال عن الهند، وخوض أربع حروب مباشرة معها (1947، 1965، 1971، 1999)، فضلاً عن نزاعات النفوذ غير المباشرة من خلال الجماعات الإسلامية المدعومة منها، سواء في كشمير أو في أفغانستان.
شخصيّة استثنائيّة
العلامة الفارقة في شخصية عمران خان أنّه من أصول بشتونية، ومن إقليم البنجاب الأهمّ ديمغرافياً (أكثر من 38% من سكان باكستان هم بنجابيون)، وسياسياً (مركز الثقل السياسي والعسكري).
بعد دخوله غمار السياسة أواخر التسعينيّات، حدثت تحوّلات جذرية في شخصيّته نقلته من الصورة الشائعة عنه كشابّ مستهتر إلى صوفيّ ملتزم، وانتهت بزواجه الثالث مع بشرى بيبي قبل ستّة أشهر فقط من تسلّمه منصب رئيس الوزراء في آب 2018.
زوجته الحالية لديها خمسة أولاد من زوجها السابق الذي تطلّقت منه عام 2017، والذي ينتمي إلى أسرة ذات روابط سياسية بحزبَيْ بينازير بوتو ونواز شريف. هي صوفيّة معروفة، والتقت بعمران خان أول مرة عام 2015، إذ كان زائراً دائماً لمقام الصوفيّ فريد بابا في مدينة باكبتن بالبنجاب، وكان يستشيرها كلّما مرّ بمشكلة عويصة. كانت مرشدته الروحية، فأصبحت زوجته، والسيّدة الأولى في باكستان.
أمّا مواقفه السياسية التي عزّزت شعبيّته الكاسحة منذ عشر سنوات، فهي تراوح بين اعتراضه على قصف الولايات المتحدة المتكرّر لمناطق البشتون الحدودية مع أفغانستان، في ما يُعرف بـ”حملة الدرون” أو المسيّرات التي تغتال المنتمين إلى الحركات الجهادية المختلفة، وسقط فيها كثير من المدنيين، وصولاً إلى تأييده حركة طالبان لدى استيلائها على كابول عام 2021.
في الشأن الداخلي، بدا عمران خان سياسياً غير تقليدي، يكافح الفساد، ونصيراً للفقراء بحيث ارتكزت فلسفة حزبه “حركة إنصاف” على إنصاف الشرائح المحرومة في المجتمع. حتى إنّ المراقبين رأوا فيه استنساخاً لتجربة العدالة والتنمية في تركيا من الناحية الأيديولوجيّة، واستثماراً في موجة الربيع العربي التي بدأت عام 2011 وكانت في ظاهرها التخلّص من النظم الحاكمة التقليدية.
أمّا الموقف الذي رسم مستقبله السياسي العام الماضي، قبل نزع الثقة البرلمانية عنه في شهر نيسان من ذاك العام، وهي المرّة الأولى التي يسقط فيها رئيس حكومة باكستاني في البرلمان، فكان قرار الحياد إبّان اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية، فيما باكستان حليف تقليدي للولايات المتحدة، ويعتمد جيشها على الدعم الأميركي.
مشكلة عمران خان مع الجيش ليست كأيّ نزاع سابق مع بوتو الأب وابنته أو نواز شريف. فعمران خان تلقّى الدعم من الجيش في انتخابات عام 2018. وهو بالمقابل مدّد ولاية قائد الجيش قمر جافد باجوه ثلاث سنوات بطريقة مخالفة للقانون. وكان لقائد الجيش صولاته في السياستين الخارجية والداخلية الباكستانيّتين. ففي عهده، تولّى إصلاح العلاقات مع المملكة العربية السعودية ومع الولايات المتحدة، وترطيب الأجواء مع الهند العدوّ التقليدي، وتطوير العلاقات مع الصين الحليف التقليدي لباكستان.
أمّا في الداخل فتفاقم الضغط على وسائل الإعلام. والقضية التي فصمت الشراكة بين خان وباجوه في ما عرف بـ”النظام الهجين” (المدني – العسكري)، كانت عندما قطع خان فترة ولاية رئيس المخابرات ISI آنذاك، الجنرال عاصم منير، الذي قيل إنّه يحقّق في مزاعم فساد ضدّ خان وأفراد عائلته. استبدل منير بالجنرال فايز حميد المقرّب من خان. لكنّ الجنرال منير عيّنه رئيس الوزراء الحالي شهباز شريف (شقيق نواز شريف) قائداً للجيش في تشرين الأول 2022. إقالة عمران خان من جهة، والمجيء بخصومه في السياسة والجيش من جهة، رسم مشهداً معقّداً للغاية، وصعباً بما لا يمكن احتماله.
في عهده، تولّى إصلاح العلاقات مع المملكة العربية السعودية ومع الولايات المتحدة، وترطيب الأجواء مع الهند العدوّ التقليدي، وتطوير العلاقات مع الصين الحليف التقليدي لباكستان
الاغتيال أم النفي؟
عمران خان واصل الكفاح. وعلى الرغم من فشله في تحقيق وعوده بمكافحة الفساد والنهوض الاقتصادي خلال مدّة حكمه، وبغضّ النظر عن رفع أكثر من 140 دعوى قضائية مسجّلة ضدّه بتهم مختلفة منها التشهير والإرهاب والفساد، إلا أنّ أتباعه لا ينظرون إليه كمجرّد زعيم سياسي، بل كمخلّص للدولة.
وفق استطلاع للرأي قامت به مؤسّسة غالوب باكستان Gallup Pakistan، فإنّ 61% من الباكستانيين ينظرون إليه بإيجابية. جمهوره لا يتأثّر بأيّ اتّهام بالفساد يوجَّه إليه، وهو قادر على إقناع الجمهور بأنّه الرجل الشريف الوحيد في الطبقة السياسية الباكستانية. وركّز في سرديّته على جعل المعادلة التالية موضع شيوع: الشعب الطاهر في مواجهة النخبة الفاسدة. هو متّهم وزوجته بالحصول على رشوة من شركة عقارية هي Al-Qadir Trust. فيما يقول إنّ المشروع هو عبارة عن تبرّع خيريّ. وأخيراً، كان نجاحه لافتاً في اجتذاب الشباب الذين يشكّلون 65% من سكان البلاد البالغ عددهم الإجمالي 250 مليون نسمة، وبراعة حزبه في استعمال وسائل التواصل.
إقرأ أيضاً: باكستان: أيّ ثمن يدفعه عمران خان؟
تعرّض عمران خان لمحاولة اغتيال خلال تجمّع حاشد في إقليم البنجاب في تشرين الثاني 2022 عندما فتح مسلّحون عليه النار وأصابوه. وفي 9 أيار الحالي، اعتُقل بتهمة الفساد، فسرت الاضطرابات العامّة في باكستان، واستهدفت مراكز الجيش، ومنها قيادة الأركان في مدينة روالبندي. عقب ذلك، اعتُقل العشرات من قياديّي حركة إنصاف، وبدأت سلسلة الاستقالات من الحزب، لإضعاف الحزب قبل الانتخابات المقرّرة أواخر العام. استقال نائب رئيس حركة إنصاف فواد شودري، الوزير الفيدرالي السابق، وكذلك أسد عمر الأمين العامّ للحزب وعضو اللجنة المركزية، ووزيرة حقوق الإنسان شريين مزاري. لكنّ ما لفت الانتباه هو تصريح شودري عقب إطلاق سراحه: “باكستان موجودة لأنّ الجيش الباكستاني موجود، وعلينا ممارسة سياساتنا مع وضع هذه النقطة في الصدارة”. بل إنّ وزير الدفاع في حكومة شبهناز الشريف ألمح إلى إمكانية حظر الحزب بسبب الهجوم على الأساس المكين للدولة، أي الجيش. أمّا عمران خان فعلّق على الاستقالات قائلاً: “كنّا نسمع في باكستان عن الزيجات الإكراهية، لكنّنا ما نشهده الآن هو التطليقات الإكراهية”.
عمران خان أمام خيار من اثنين، كما قال أخيراً، إمّا اعتزال السياسة، أو الانضمام إلى نواز شريف في لندن ليكمل حياته منفيّاً، لكنّه أراد، وهو رامي الكرة الاستثنائي في تاريخ لعبة الكريكيت، أن يلقي بورقته الأخيرة، وهو تشكيل لجنة للحوار مع الحكومة، بشأن بقائه في الحياة السياسية أم لا.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@