إفريقيا: لعنة الذهب… يفقر أهلَهُ

مدة القراءة 5 د

تُعتبر بوركينا فاسو، التي انقلبت على فرنسا وطلبت سحب قواتها العسكرية منها، من أفقر الدول الإفريقية. لكنّها في الوقت عينه من أغناها. ولأنّها غنيّة جدّاً فإنّ ثروتها تجعلها من أكثر الدول الإفريقية اضطراباً.

الذهب وفرنسا والإرهاب

هي غنيّة بمناجم الذهب مثل جارتها مالي. وإذا كان استخراج الذهب يحتاج إلى حفر آبار عميقة بين طبقات الصخور، أو في مجاري الأنهار، فإنّ الأمر ليس كذلك في مالي وفي بوركينا فاسو. فقد عُثر على المعدن الثمين تحت طبقة رقيقة نسبياً تحت سطح الأرض، وبكميّات كبيرة يسيل لها لعاب دول، وعلى رأسها فرنسا.

لم يكن اكتشاف الذهب في هذه المنطقة من إفريقيا بالأمر الجديد. إنّه معروف جداً منذ القرن الثالث عشر، وخاصة في مالي. والتهافت على استخراجه في هذه المنطقة أدّى إلى صراعات داخلية وخارجية. ففي العقد الماضي وحده أنفقت شركات التنقيب والاستخراج، كما أعلنت هي نفسها، خمسة مليارات دولار. إلا أنّها لم تعلن حجم الذهب الذي استخرجته ولا قيمته.

يُقدّر حجم الإنتاج في مالي وحدها ما بين 40 و95 طناً من الذهب الخام في العام الواحد. وتراوح قيمة هذا الإنتاج من الذهب الصافي ما بين 1.9 و4.5 مليارات دولار. وهذه الثروة الضخمة تضطرّ فرنسا إلى أن تدير لها ظهرها بسحب قواتها العسكرية

لم يؤدِّ انتشار الأخبار عن وفرة الذهب وسهولة استخراجه إلى التنافس الحادّ بين الشركات والدول فقط (من كندا إلى الصين مروراً بأوروبا، وخاصة فرنسا والولايات المتحدة)، لكنّه شجّع الجماعات المسلّحة في غرب ووسط إفريقيا على اقتحام المسرح مستعينة بشعارات دينية متطرّفة. ذلك أنّ الأكثرية الساحقة من سكان المنطقة هم من المسلمين الفقراء والمحرومين. أمّا شركات الاستثمار ففرنسية وأجنبية.

استطاع بعض هذه الشركات احتواء عناصر من هذه الحركات المسلّحة وتوظيفها لحماية مناجمها مقابل “حفنة من الدولارات”، وعهدت إليها بمهمّات أمنية. إلا أنّ بعض هذه الحركات تجاوز دور الحارس إلى دور الشريك الذي يطالب “بحصّته” من الذهب المستخرَج. وعندما ترفض الشركات، تنفجر أعمال العنف والإرهاب. فمنجم “يونغو” مثلاً الغني بالذهب في بوركينا فاسو، بل الفاحش الغنى، تملكه شركة كندية. وحدث أثناء نقل العمال إلى المنجم أن تعرّضت قافلتهم التي كانت تتألّف من خمس سيارات نقل كبيرة، لهجوم من المسلّحين. أدّى الهجوم إلى مقتل 39 عاملاً وإصابة 60 آخرين بجراح، ممّا اضطرّ الشركة ليس فقط إلى التعويض على الضحايا، بل العمل على استيعاب المسلّحين واسترضائهم.

تمويل “الإرهاب”

هكذا يتمّ “التمويل” غير المباشر للجماعات المسلّحة في منطقة الساحل في غرب إفريقيا لتستمرّ عمليّاتها الإرهابية. وكانت مالي مسرح معظم هذه العمليات، إلا أنّ بوركينا فاسو تتحوّل الآن إلى مسرح جديد ومنافس. إذ يكاد لا يمرّ شهر بدون أن يقع حادث إرهابي ليس له علاقة بالدين أو بحقوق الإنسان، لكن بعائدات استخراج الذهب، وهو ما أدّى إلى انفجار العلاقات مع فرنسا.

في هذا الإطار قُتل أربعة أميركيين في عام 2017 في مالي. قيل يومها أنّهم كانوا يقومون بمهمّات أمنية. إلا أنّ مهمّتهم الأمنية تلك كانت تتعلّق بالذهب واستخراجه وتأمين خطوط نقله ولم تكن تتعلّق بمكافحة الإرهاب. كذلك فإن فرنسا التي كانت تستعمر هذه الدول، تحتفظ بقوة عسكرية فيها مؤلّفة من 4,500 جندي. وقد قرّرت فرنسا زيادة حجم هذه القوة لتلبية حاجات بوركينا فاسو الأمنية وحاجات فرنسا الذهبية. وتحاول الآن إقناع حليفاتها الأوروبيات تشكيل قوة مشتركة لمحاربة “الإرهابيين” والمحافظة على سلامة الذهب، إنتاجاً ونقلاً. لكنّ المحاولة تعثّرت، حتى إنّ الانقلاب العسكري طالب فرنسا بسحب قواتها وحدّد لها فترة أسبوع واحد.

لم يؤدِّ انتشار الأخبار عن وفرة الذهب وسهولة استخراجه إلى التنافس الحادّ بين الشركات والدول فقط لكنّه شجّع الجماعات المسلّحة في غرب ووسط إفريقيا على اقتحام المسرح مستعينة بشعارات دينية متطرّفة

ذهب وفقر وتخلّف

يُقدّر حجم الإنتاج في مالي وحدها ما بين 40 و95 طناً من الذهب الخام في العام الواحد. وتراوح قيمة هذا الإنتاج من الذهب الصافي ما بين 1.9 و4.5 مليارات دولار. وهذه الثروة الضخمة تضطرّ فرنسا إلى أن تدير لها ظهرها بسحب قواتها العسكرية.

يكفي هذا المبلغ ليجعل من بوركينا فاسو دولة مكتفية بذاتها. إلا أنّها اليوم تعتبر واحدة من أشدّ الدول الإفريقية فقراً. كما أنّ هذا المبلغ كافٍ ليجعل من مالي دولة متقدّمة، إلا أنّها تُعتبر اليوم من أكثرها تخلّفاً. فالدولتان لا تحصلان إلا على الفتات من إنتاجهما من هذا المعدن الثمين. أمّا الحصّة الكبرى فتعود لشركات الاستثمار الأجنبية، وفي مقدَّمها الشركات الفرنسية، وللدول التي توفّر لها الحماية والتغطية، وعلى رأسها فرنسا.

ويجري تهريب الذهب المستخرَج من بوركينا فاسو إلى جارتها توغو، ومن هناك يتمّ نقله إلى الدول التي تملك وتحمي الشركات المستثمرة. وهكذا تتداخل مصالح الشركات التي تستخرج الذهب مع مصالح الدول التابعة لها أو الحامية لها على حساب حكومات الدول الإفريقية التي تعمل فيها.

إقرأ أيضاً: مذكّرة توقيف دولية لرئيس الصين

بعد الانقلاب على القوات الفرنسية المرابطة في بوركينا فاسو، حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون معالجة الأمر، لكنّه لم ينجح حتى في ترقيعه. فخلال جولته الانفتاحية الأخيرة على هذه الدول، وُجّهت إليه انتقادات حادّة. وما كان منتقدوه الأفارقة ليرفعوا الصوت عالياً لو لم يكن هناك من يحميهم من ردّ فعل فرنسا، القوة المستعمرة السابقة. وفي مقدَّم هؤلاء روسيا والصين. وهكذا بدأت المنطقة الإفريقية تتحوّل إلى مسرح للتنافس بل الصراع بين الاتحاد الأوروبي وأميركا وبين تفاهم روسيا والصين.

أمّا الناس في بوركينا فاسو ومالي فيزدادون فقراً وحرماناً مع ازدياد إنتاج دولتَيهما من الذهب.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…