صدرت مذكّرة دولية بإلقاء القبض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية في أوكرانيا.
في اليوم التالي توجّه بوتين إلى شرق أوكرانيا حيث ارتُكبت “الجرائم” التي اتُّهم بها وتفقّد قوّاته التي “نفّذت” تلك الجرائم. ثمّ عاد إلى موسكو ليستقبل الرئيس الصيني تشي جينبينغ.
لم يأتِ الرئيس الصيني لتبليغ الرئيس الروسي المذكّرة الدولية بإلقاء القبض عليه، بل ليبلغه أنّه ضدّ النظام الدولي الذي أصدر المذكّرة، وأنّه مستعدّ للتعاون معه من أجل تغيير هذا النظام، وإخراجه من قبضة الأحادية الأميركية.
الرئيس الصيني تعهّد، أمام الهيئة التي جدّدت انتخابه رئيساً للمرّة الثالثة، بتحرير جزيرة تايوان من الهيمنة الأميركية قبل عام 2027. وهو يدرك أنّ مذكّرة إلقاء قبض مماثلة بانتظاره، وأنّ هذه المذكّرة قد تصدر مع أوّل عمل عسكري تقوم به القوات الصينية في تايوان.
لم يأتِ الرئيس الصيني لتبليغ الرئيس الروسي المذكّرة الدولية بإلقاء القبض عليه، بل ليبلغه أنّه ضدّ النظام الدولي الذي أصدر المذكّرة، وأنّه مستعدّ للتعاون معه من أجل تغيير هذا النظام، وإخراجه من قبضة الأحادية الأميركية
من هنا فالسباق بين تنفيذ مذكّرات إلقاء القبض التي صدرت، وسوف تصدر، عن النظام الدولي الحالي برئاسة الولايات المتحدة، وتغيير هذا النظام بمبادرة روسية – صينية مشتركة.
وجّهت الولايات المتحدة تحذيراً إلى الصين بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا ما قدّمت مساعدات عسكرية إلى روسيا. لكنّ إيران قدّمت مساعدات شملت طائرات بدون طيار وتلقّت التهديد ذاته، لكنّها لم تكترث به. ثمّ إنّ الصين ليست إيران، سواء من حيث القدرات العسكرية أو الاقتصادية والسياسية، ولذلك كان طبيعياً أن تجد نفسها أجدر بعدم الاكتراث بالتهديد الأميركي.
حرب روسية – أميركية
تحوّلت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا إلى حرب روسية غير مباشرة مع دول حلف شمال الأطلسي، بما فيها الولايات المتحدة ذاتها. تدرك الصين معنى هذا التحوّل وتبعاته، وهي تتطلّع إلى استعادة تايوان (أوكرانيا الصينية). وتعرف الصين معنى التنسيق السياسي – العسكري المستحدَث بين اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا (التي تزوّدت بغوّاصات نووية أميركية) وبين الولايات المتحدة.
لم يتطوّر الاشتباك العسكري الروسي مع دول الحلف الأطلسي في أوكرانيا إلى صراع مباشر مع دول الحلف خوفاً من أن يتحوّل الاشتباك إلى حرب نووية. ويصحّ الأمر ذاته في تايوان. فالصين دولة نووية لا تصل قذائفها إلى اليابان وكوريا الجنوبية فحسب، بل تصل إلى الولايات المتحدة ذاتها، وأيضاً إلى أستراليا، إضافة إلى الاستنفار النووي البعيد المدى لدى كوريا الشمالية.
صحيح أنّ روسيا مستفرَدة في الجبهة الأوروبية، إلا أنّ الصين معزّزة بحلفاء مسلّحين نووياً حتى أسنانهم في شرق آسيا. تعرف ذلك جيّداً طوكيو، وتعرفه سيول أيضاً، وتحسبان له بدقّة وقلق شديدين.
أدّت الدبلوماسية الحالية للرئيس جو بايدن إلى تحالف صيني – روسي في وجه الولايات المتحدة وحلفائها. وقد يكون هذا التغيير الاستراتيجي وراء ردّ فعل الدكتور كيسنجر التحذيري
ماذا فعل رئيس الصين في موسكو؟
من هنا يظهر سؤال جديد: لماذا جاء الرئيس الصيني تشي إلى موسكو في أوّل زيارة له خارج الصين بعد تجديد انتخابه للمرّة الثالثة؟ (وهي سابقة في تاريخ الرئاسات الصينية)
هناك أكثر من جواب على هذا السؤال. الجواب الساذج هو التوسّط بين موسكو وكييف. تكمن السذاجة في هذا الجواب في أنّ الولايات المتحدة التي جعلت من أوكرانيا خطّ هجومها الأوّل على الكرملين – بوتين، لا يمكن أن تعطي للرئيس تشي فضل التسوية السياسية، في حين تستعدّ الصين عسكرياً وسياسياً لاسترجاع تايوان ولو بالقوّة العسكرية.
لقد فقدت واشنطن أوراقها السياسية في جبهتَي الصراع في أوكرانيا وتايوان. فهي لا تملك سوى الذراع العسكرية الطويلة عبر حلفائها في الحلف الأطلسي في أوروبا وعبر حلفائها الآخرين في جنوب شرق آسيا.
وبذلك وضعت نفسها في موقف المفاوض بقوّة السلاح وليس بقوّة المنطق. وقد عجزت حتى الآن عن تسويق منطقها مع موسكو. وتبدو أكثر عجزاً عن تسويقه مع بيجين. من هنا العقدة المتشابكة بين أزمتَي أوكرانيا وتايوان.
كيسنجر: منطق القوّة.. لا قوّة المنطق
أضاء على هذه النقطة المهمّة وزير الخارجية الأسبق الدكتور هنري كيسنجر (الذي بلغ المئة من عمره) حين اعترف في مقالة له بأنّ الولايات المتحدة أصبحت الآن تعتمد على منطق القوة، وليس على قوّة المنطق، وأنّه من أجل ذلك بات موقفها السياسي الحواريّ موقفاً ضعيفاً، أفقدها أوراق المساومة والتوسّط والحوار. وقد وجد ذلك ترجمته في إدخال الولايات المتحدة نفسها في مأزق المنتصر والمنهزم على أساس القوّة العسكرية.
كانت الدبلوماسية الأميركية تقوم منذ عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على قاعدة التفاهم مع الصين لاحتواء الاتحاد السوفيتي السابق. غير أنّ الدبلوماسية الحالية للرئيس جو بايدن أدّت إلى تحالف صيني – روسي في وجه الولايات المتحدة وحلفائها. وقد يكون هذا التغيير الاستراتيجي وراء ردّ فعل الدكتور كيسنجر التحذيري. فكيسنجر هو عرّاب التلاقي الصيني – الأميركي الذي أقضّ مضاجع زعماء الكرملين في الستّينيات من القرن الماضي.
إقرأ أيضاً: فرنسا: زادت أعمارهم 15 عاماً.. ويرفضون العمل عامين إضافيين
تتضمّن هذه اللعبة السياسية الخطيرة لعبة الثلاث أوراق:
– ورقة الرئيس الصيني تشي الذي جرى تجديد انتخابة لولاية ثالثة.
– ورقة الرئيس بوتين الذي لا يشكّ أحد في قدرته على تأمين استمراره في الكرملين لولاية جديدة.
– وورقة الرئيس بايدن الذي ترتفع علامات استفهام كبيرة عن إمكانية تجديد انتخابه في العام التالي رئيساً لولاية ثانية.
فمن تكون ورقته هي الرابحة؟