كان لافتاً ما ورد في صحف أوروبية في أعقاب القمّة الصينية – الروسية عن وجوب تعامل أوروبا مع بكين إثر هذه القمّة وما بعدها، خصوصاً بعد العناق الحارّ مع “العدوّ”، كما ينظر الغرب لبوتين اليوم. لكنّ السؤال الذي يُطرح هو حول ما قدمّه الرئيس الصيني لنظيره الروسي بعيداً عن “عناق حارّ” وبعض الكلام “اللطيف” بين من يسمّيان نفسيهما بالـ”صديقين”، أو بالأحرى من يسمّيه الرئيس الروسي “صديقه”.
زادت زيارة شي جينبينغ لموسكو في إثارة أسئلة إضافية كانت قد عمّت العالم من أقصاه إلى أقصاه بعد نشوب الحرب الروسية على أوكرانيا. كان لا بدّ لهذه الزيارة أن تكون مقلقة للأوروبيين. خصوصاً أنّ قارّتهم هي الأكثر تأثّراً بمجريات هذه الحرب الدائرة على أراضيها. هذا في وقت تحاول موسكو التهديد بتوسيع رقعة الحرب بنقلها عشر طائرات إلى بيلاروسيا بإمكانها نقل قنابل نووية تكتيكية بحجّة أنّ لندن مدّت كييف بقذائف مدفعية مضادّة للمدرّعات محمّلة باليوارنيوم المشعّ. ويترافق ذلك مع تزايد نبرة كلام ميدفيديف التهديدية باجتياح كامل أوكرانيا واحتلال العاصمة كييف وصولاً إلى مدينة لفيف الغربية المجاورة للحدود البولونية حيث انتشار قوات الناتو.
كان لافتاً ما ورد في صحف أوروبية في أعقاب القمّة الصينية – الروسية عن وجوب تعامل أوروبا مع بكين إثر هذه القمّة وما بعدها، خصوصاً بعد العناق الحارّ مع “العدوّ”، كما ينظر الغرب لبوتين اليوم
الصين “طمأنت” أوروبا
نجح الرئيس الصيني في عدم إثارة الأوروبيين خلال الزيارة أو بعدها. فقد أظهر صراحة إمساكه “العصا من الوسط”:
أولاً، كان واضحاً الرئيس “شي” في أنّه لا يسعى إلى “حلف عسكري” يجمع بلاده مع روسيا. حتى إنّ بوتين، بعد انتهاء القمة، أشار صراحة إلى أنّ البلدين “يعملان على تطوير التعاون، لكنّ هذا التعاون ليس تحالفاً عسكرياً”. وهو ما دفع بوزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن إلى القول إنّ “الصين لم تتخطَّ الحدود” المسموحة لها. فيما علت عدّة تحذيرات أميركية سابقاً من مدّ الصين لروسيا بالأسلحة. تُرجم الارتياح الأوروبي بما جاء من إسبانيا التي بادرت إلى إعلان ضرورة التفكير مليّاً وبعقل منفتح في المبادرة الصينية لحلّ الأزمة الأوكرانية المعقّدة.
ثانياً، أظهرت القمة الصينية – الروسية (في الشكل) جانباً رمزياً تمثّل في تعزيز مقولة الرئيس بوتين إنّ روسيا ليست معزولة ولا يمكن عزلها عن العالم. بالمقابل كرّس الرئيس شي جينبينغ قدرته على الظهور زعيماً عالمياً يعزّز علاقات بلده بإحدى القوى العظمى في العالم. إلا أنّ أوروبا لاحظت أنّه على الرغم من هذا التقارب لم تحقّق القمّة ما أراده بوتين منها، ولا سيما طلبه تأييد بكين لموسكو في حربها على أوكرانيا. بل إنّ أوروبا رأت في أنّ عدم دعم الرئيس الصيني لرغبات الكرملين يُظهر نوعاً من التوتّرات الكامنة الواضحة (بين الرئيسين) على الرغم من الحفاوة المبالغ فيها التي لفّت الزيارة.
ثالثاً، استطاعت أوروبا أن ترى التباينات التي لم تخرج إلى العلن عندما أعلن بوتين أنّ “موسكو تنظر إلى المبادرة الصينية المؤلّفة من 12 نقطة باحترام”، أي أنّه باللياقة يحترمها، لكنّه بالجوهر لم يقدّم أيّ خطوات عملية فعلية تُظهر ترحيبه بها، أو أقلّه، استعداده لبحث مضمونها. وقد ارتاحت أوروبا إلى أنّ المبادرة المتوافقة مع تصويت الصين في الجمعية العامة للأمم المتحدة تؤيّد أيّ حلّ سلمي دبلوماسي للأزمة الأوكرانية وترفض ضمناً التهديد باستعمال السلاح النووي.
إذا كانت روسيا تحتاج إلى الصين للتخفيف من أزماتها، إلا أنّ المؤكّد هو أنّ بكين بحاجة إلى أوروبا لبيع سلعها واستمرار دوران عجلة اقتصادها
أوروبا مستفيدة من الصين
رابعاً، ترى أوروبا أنّ لها مصلحة في استيراد الصين للنفط والغاز من روسيا بأسعار بخسة تصل أحياناً إلى ربع ثمن الأسعار العالمية، حيث إنّه بعد النقص الحادّ في الإمدادات الروسية لأوروبا (وصلت إلى صفر في بداية شباط)، يُعتبر استيراد الصين للطاقة من شرقي روسيا (من مرفأ كوزيمو في منطقة ناخودكا على شاطئ البحر الياباني) توفيراً لإمدادات الطاقة على الصعيد العالمي، وهو ما يتيح لأوروبا المزيد من الاستيراد، سواء من الشرق الأوسط أو من شمالي وغربي إفريقيا.
خامساً، لا ترى أوروبا خطراً عليها من اعتماد كلّ من الصين وروسيا عملة اليوان الصيني في تبادلهما التجاري، لأنّ اليوان ما زال يشكّل أقلّ من 2% من التبادل التجاري الدولي، ولأنّ الهدف الأول من اعتماده هو استهداف الدولار الأميركي، المنافس الأوّل وذي التأثير القوي على اليورو واقتصادات الدول الأوروبية التي تسعى إلى تقليص تأثير الدولار على الاقتصاد الأوروبي وتقليل انعكاسات أزماته وأزمات المصارف الأميركية، التي كانت آخِرتها أزمة سيليكون فالي بنك وسيغنيتشر بنك، على أوروبا عامة، وعلى سويسرا خاصة، من خلال بنك كريدي سويس.
سادساً، أوروبا على علم تامّ بأنّ المبادلات التجارية الصينية مع بلدانها تصل إلى حدود 750 مليار يورو، وهي الكبرى عالمياً، وأنّ أوروبا هي الشريك التجاري الأول للصين، وأنّه لا يسع بكين التحيّز لموسكو حفاظاً على مصالحها التجارية مع القارّة العجوز. كما لاحظت أوروبا أنّ التأييد المعنوي الذي أبداه الرئيس “شي” لبوتين لم يخفّف من أنّ الصين هي الشريك المهيمن. كما تحفّظ الرئيس الصيني أكثر من بوتين في المؤتمر الصحافي المشترك في ذكر تحديد المجالات التي تعتزم فيها الدولتان تعزيز التعاون، معتبراً أنّ التعاون الاستراتيجي محدود بعدما كان بوتين يعتبره “غير محدود”.
إقرأ أيضاً: مذكّرة توقيف دولية لرئيس الصين
سابعاً، لـم يتمّ الاتفاق على بناء خط أنابيب غاز “قوة سيبيريا 2” الـذي وصفـه بـوتين بأنّه “صفقة القرن”، في حين أشار الرئيس الصيني إلى “الحاجة للتفاوض على المزيد من التفاصيل”.
ترك كلّ ذلك انطباعاً بأنّ روسيا تحتاج إلى الصين أكثر ممّا تحتاج بكين إلى موسكو. وإذا كانت روسيا تحتاج إلى الصين للتخفيف من أزماتها، إلا أنّ المؤكّد هو أنّ بكين بحاجة إلى أوروبا لبيع سلعها واستمرار دوران عجلة اقتصادها.