روسيا تزاحم فرنسا… على “ثروات” إفريقيا

مدة القراءة 10 د

مع احتدام الصراع العسكري في أوكرانيا بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وتصاعد التوتّر بين الصين والولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين، تشهد إفريقيا تنافساً من نوع آخر، بين القوى الكبرى عموماً، وبين روسيا وفرنسا خاصة، حيث تنجح موسكو في “غزو” البلدان الإفريقية المستعمَرة سابقاً من فرنسا، والتي ترتبط معها باتفاقات دفاعية وأمنيّة واقتصادية وثقافية، منذ حقبة الاستقلال، وذلك على نحوٍ منهجيّ، من بوّابة تقديم الدعم الأمني إلى الدول التي تهدّدها الاضطرابات عبر الشركات الأمنيّة، ولا سيّما مجموعة فاغنر.

قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بجولة ثانية في إفريقيا في مطلع الشهر الحالي، في أقلّ من شهر، تحضيراً للقمّة الإفريقية الروسية في تموز المقبل، وسعياً لكسر الحصار الدبلوماسي الذي تحاول الدول الغربية فرضه على روسيا. فبعد القمّة الروسية الإفريقية الأولى التي انعقدت في سوتشي يومَي 23 و24 تشرين الأول عام 2019، والتي كانت بمنزلة الإعلان عن عودة موسكو إلى إفريقيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، يجري الإعداد لقمّة ثانية في سانت بطرسبورغ في تموز المقبل، من أجل الانطلاق بالدور الروسي في إفريقيا نحو آفاق أوسع. من أجل ذلك، زار لافروف مالي، وموريتانيا، والسودان في شباط الجاري. وفي كانون الثاني السابق، زار جنوب إفريقيا، وإسواتيني، وأنغولا، وإريتريا. كما عرّج على الجزائر في أيار الماضي، وعلى مصر والكونغو وأوغندا وإثيوبيا في تموز الماضي. وتأتي الجولة الحالية، بعد أشهر قليلة من خروج آخر الوحدات الفرنسية من مالي ومن جمهورية إفريقيا الوسطى مع إنهاء الاتفاقيات العسكرية الثنائية بين باريس وهاتين الدولتين، حيث ينتشر الآن فيهما مرتزقة من مجموعة فاغنر، لـ”مكافحة الإرهاب”، بدلاً من القوات الفرنسية.

مع احتدام الصراع العسكري في أوكرانيا بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وتصاعد التوتّر بين الصين والولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين، تشهد إفريقيا تنافساً من نوع آخر، بين القوى الكبرى عموماً، وبين روسيا وفرنسا خاصة

1960 – 2023

بحسب تقرير مفصّل في موقع دبلو ويب diploweb.com بعنوان: “روسيا في إفريقيا الفرنكوفونية منذ زمن الاستقلال: ما معنى الصراع الفرنسي الروسي على النفوذ – 1960-2023La Russie en Afrique francophone depuis les indépendances : quels moyens pour une lutte d’influence franco-russe 1960-2023″، يبدو أنّ دولة بوركينا فاسو تسير على طريق مالي، وتقترب بدورها من موسكو. لذلك تواصل باريس ممارسة نفوذها في مستعمراتها السابقة، بمستوى أقلّ اقتصادياً وثقافياً، وأقلّ أمنياً قبل كلّ شيء.

هذا التعزيز الملحوظ للوجود الروسي في إفريقيا جنوب الصحراء الناطقة بالفرنسية، ترافق مع ارتفاع في حدّة المشاعر “المعادية للفرنسية” منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتعزّزت بشكل خاص في السنوات الست الماضية مع تواتر التظاهرات المؤيّدة لانسحاب القوات الفرنسية.

استعمار فرنسيّ بأسلوب جديد

في عام 1958، أدركت فرنسا أنّه لم يعد ممكناً الاستمرار باستعمارها المباشر للبلدان الخاضعة لها عسكرياً في القارة الإفريقية خاصة، ضمن ما سُمّي بالاتحاد الفرنسي L’Union française، والذي تأسّس عقب الحرب العالمية الثانية عام 1946، من خلال دستور الجمهورية الرابعة، والذي يجمع بين فرنسا والبلدان الخاضعة لها ما وراء البحار.

فاقترح الجنرال ديغول إجراء استفتاء في أراضي الاتحاد الفرنسي بهدف تحويل الاتحاد إلى مجموعة دول Communauté d’États. وبهذا، تمنح فرنسا لمستعمراتها مكانة الدولة، مع استمرار الهيمنة عليها. أي لا تكون للدول الجديدة إلا سيادة منقوصة. كانت غينيا سبّاقة إلى رفض الدستور الجديد وحصلت على استقلالها عام 1958، قبل حصول بقيّة الدول الإفريقية على الاستقلال في عام 1960. وعلى الرغم من ذلك، رغبت فرنسا في الحفاظ على بعض العلاقات الوثيقة مع الدول الجديدة في عدد من القطاعات، ولا سيما النقدية منها والاقتصادية والثقافية والأمنيّة.

الفرنك الأفريقي – الفرنسي

مثال صارخ على الاستعمار غير العسكري، ما يسمّى “التعاون النقدي” بين فرنسا وعدد من الدول الإفريقية منذ عام 1960 حيث تقوم فرنسا بطباعة الفرنك الإفريقي “CFA franc”، المتداوَل كعملة وطنية في تلك الدول. وبحسب موقع وزارة الخارجية الفرنسية، فإنّ لدى باريس اتفاقيات تعاون نقديّ مع ثلاث مناطق نقدية إفريقية. وفق هذه الاتفاقيات، أنشأت فرنسا “الفرنك الإفريقي” في ثلاثينيات القرن الماضي عشيّة الحرب العالمية الثانية. هو يُطبع في فرنسا، وينتشر في ثلاث مناطق، لكلّ منها بنكها المركزي وعملتها الخاصة.

المجموعات هي:

الاتحاد النقدي والاقتصادي لغرب إفريقيا (UEMOA) المكوّن من 8 دول أعضاء، وهي: بنين، وبوركينا فاسو، وساحل العاج، وغينيا بيساو (ليست دولة فرنكوفونية)، ومالي، والنيجر، والسنغال، وتوغو. تستخدم هذه البلدان فرنك غرب إفريقيا (XOF).

المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا (UMAC)، المكوّنة من 6 دول أعضاء، هي: الكاميرون، وإفريقيا الوسطى، وتشاد، والكونغو، وغينيا الاستوائية، والغابون، وتستخدم هذه البلدان فرنك وسط إفريقيا(XAF) .

اتحاد جزر القمر، وعملته: (KMF).

وفقاً لوزارة الخارجية الفرنسية، فإنّ ما تسمّيه “التعاون النقدي”، يوفّر إطاراً اقتصادياً مستقرّاً للسياسات الاقتصادية في الدول الإفريقية المنضوية فيه. فارتباط الفرنك الإفريقي باليورو، يضفي عليه مزيداً من المزايا: فهو يمنح الاقتصادات مرونة أفضل في مواجهة صدمات الاقتصاد الكلّي، ويساعد في السيطرة على التضخّم من خلال ضمان استقرار العملة، وهو ما يؤدّي إلى نموّ التجارة والاستثمارات.

ظلّ فرنسا، عبر تاريخها ومن خلال الروابط الوثيقة التي أنشأتها وحافظت عليها في القارّة، لاعباً اقتصادياً رئيسياً، حتى لو كانت تفقد أهمّيّتها الآن

ليس الفرنك الإفريقي عملة تفرضها فرنسا، كما تقول وزارة الخارجية الفرنسية، ولكلّ بلد الحرّية في مغادرة منطقة الفرنك، إمّا مؤقّتاً (مثل مالي) أو بشكل دائم (مثل غينيا وموريتانيا ومدغشقر) أو الانضمام إليه من خارج المنظومة الفرنكوفونية (مثل غينيا بيساو) والبقاء هناك.

تحكّم فرنسا بمفاصل الاقتصاد

تخضع اتفاقيات التعاون لتعديلات ومراجعات منذ عام 2019، بما يوفّر للدول الإفريقية استقلالية أكثر عن السلطات النقدية الفرنسية. لكنّ هذا الربط النقدي، حتى لو كان اختيارياً من حيث المبدأ. إلا أنّه منح فرنسا القدرة على التحكّم بمفاصل اقتصادات الدول المنضمّة إلى منطقة الفرنك، لجهة تسعير العملة، وكمّيتها، وحجم الاستيراد ونوع التصدير، بما يؤمّن مكاسب جمّة للدولة المُشرفة والراعية. وقد ثارت انتقادات أيديولوجية كثيرة منذ ذلك الوقت، دافعةً بعض الدول إلى مغادرة المنطقة النقدية مثل مالي أو غينيا. وهذه الناحية البالغة الحساسيّة هي إحدى النقاط البارزة في الخطاب السوفياتي السابق، والروسي الآن في المنطقة، إذ يقال إنّ الربط النقدي مع باريس هو من بقايا الاستعمار الفرنسي، وأداة في خدمة الإمبريالية الفرنسية.

بالإضافة إلى ذلك، وربّما كان الأكثر أهميّة، توقيع اتفاقيات الدفاع واتفاقيات المساعدة العسكرية الفنية (AMT)  بين باريس والغالبية العظمى من الدول الإفريقية في وقت مبكر من عام 1960. وتسمح اتفاقيات الدفاع لفرنسا بالحفاظ على نفوذها في القارّة السمراء، ونشر قوة عسكرية على الفور، حين اقتضاء ذلك، وهو ما يجعل من فرنسا شريكاً أمنيّاً مفضّلاً. في هذا السياق، لا تزال لدى فرنسا قوات داخل الدول التي معها اتفاقيات دفاعية: هذا هو حال الغابون، والسنغال، وساحل العاج، وتوغو، والكاميرون، وجيبوتي.

عودة روسيا إلى إفريقيا

بما أنّ الاتحاد السوفياتي لم ينجح حقّاً في ترسيخ نفوذه في الشرق الأوسط، باستثناء سوريا، فقد حوّل اهتمامه منذ نهاية الخمسينيات، مثل الصين الشيوعية، إلى القارّة الإفريقية. وأطلقت الحرب الباردة، التي بدأت عام 1947، “سباقاً جديداً نحو إفريقيا” بين الكتلتين الشرقية والغربية.

دعمت موسكو الحركات الثورية والاستقلالية، وبدأت تنسج علاقات تجارية مع الدول التي حصلت على الاستقلال، مثل مصر، التي أصبحت أوّل دولة إفريقية توقّع معاهدة تجارية مع الاتحاد السوفياتي في عام 1956، وتونس في عام 1957، والمغرب في عام 1958، وغينيا في عام 1959. ومع سقوط الاتحاد السوفياتي في كانون الأول 1991، أُغلقت تسع سفارات وثلاث قنصليّات و13 مركزاً ثقافياً روسيّاً. تعطّلت العلاقات الروسية الإفريقية إبّان الأزمة الاقتصادية الشديدة التي تعرّضت لها روسيا. واستمرّ هذا الجمود حتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حين زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جنوب إفريقيا في عام 2006. لكنّ كلّ شيء تسارع في بداية عام 2010. أقامت روسيا عدداً من العلاقات الدبلوماسية في إفريقيا، وافتتحت 40 سفارة. كما أرسلت ممثّلين عنها إلى الاتحاد الإفريقي وإلى المجموعات الاقتصادية الإقليمية الأخرى مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا أو مجموعة شرق إفريقيا.

وتتمتّع روسيا، بصفتها وريثة الاتحاد السوفياتي، بمزيّة لا يمكن إنكارها في القارّة الإفريقية: هي أنّها مُصدِّر رئيسي للأسلحة الموثوقة وغير المكلفة. إذ كان الاتحاد السوفياتي بالفعل، إلى حدّ بعيد، المصدر الرئيسي لواردات الأسلحة لأنغولا والكونغو وإثيوبيا أو حتى موزمبيق بين عامَي 1960 و1991. وواصلت روسيا تصدير أسلحتها إلى البلدان الإفريقية، وأيضاً الجزائر ومالي وحتى مدغشقر، بين عامَي 1992 و2021. و?يشهد النفوذ الروسي طفرة جديدة في المجال الأمنيّ، وبشكل خاص مع أنغولا، التي وقّعت معها روسيا اتفاقيات تعاون عسكري جديدة عامَي 2006 و2013.

ليبيا.. الانتكاسة

لكن بعد الصراع في ليبيا وحولها عام 2011، الذي تسبّب في توتّر العلاقات الروسية الفرنسية، خاصة بعد ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، أصبحت روسيا أكثر عدوانية في القارّة الإفريقية، ولا سيما في المجال الأمني. فبينما كان لروسيا 7 اتفاقيات تعاون عسكري فقط في إفريقيا جنوب الصحراء في عام 2017، بات لديها 30 اتفاقاً في تشرين الثاني 2023. لذلك تخوض موسكو صراعاً كبيراً مع فرنسا من أجل بسط نفوذها في منطقة النفوذ الفرنسية السابقة، مثل النيجر وتشاد، ومالي وبوركينا فاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى.

إقرأ أيضاً: عربٌ في سوريا… بلا السعودية والكويت وقطر

في إطار هذه الاتفاقيات العسكرية، ترسل موسكو مستشارين عسكريين من الشركات العسكرية الخاصة، يبدو أنّهم ذوو فعّالية واضحة. فقد أُرسلت الشركات العسكرية الخاصة إلى إفريقيا في عام 2016، مع مجموعة فاغنر في ليبيا، للمشاركة في الاشتباكات. وتساهم الشركات العسكرية الروسية الخاصة في مهامّ أخرى، مثل توفير الحماية الرئاسية كما هو الحال في جمهورية إفريقيا الوسطى، تسمح على وجه الخصوص لروسيا بترسيخ نفوذها في أعلى المجالات السياسية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

مع ذلك، تظلّ فرنسا، عبر تاريخها ومن خلال الروابط الوثيقة التي أنشأتها وحافظت عليها في القارّة، لاعباً اقتصادياً رئيسياً، حتى لو كانت تفقد أهمّيّتها الآن. ففي عام 2019، كانت فرنسا ثاني أكبر مصدّر لإفريقيا، إذ بلغت قيمة الصادرات 29.4 مليار دولار. أمّا الصين، التي أصبحت الشريك التجاري الرئيسي لإفريقيا، فهي تتقدّم بكثير عليها من حيث قيمة الصادرات التي بلغت 111 مليار دولار.

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…