“الشرّ التافه”: من أيخمان النازي… إلى النظام اللبناني

مدة القراءة 8 د

بالطبع، يعرف الكثيرون أنّ عبارة ابتذاليّة الشرّ أو تفاهته صاغتها الفيلسوفة حنة أرندت في كتابها الذي صدر عام 1961 بعنوان: “أيخمان في أورشليم”. وأيخمان هو مجرم الحرب النازي الذي كان أحد المشرفين على ترحيل اليهود إلى معسكرات الاعتقال، حيث جرى تعذيب الملايين وإجراء التجارب عليهم وقتلهم. وقد نجح في الاختفاء بعد عام 1945 والسفر إلى الأرجنتين حتى اكتُشف وجُلب إلى إسرائيل فحوكم وأُعدم. كلّ هذا معروف. لكنّ حنة أرندت اليهودية الألمانية التي نجت من المذبحة وعاشت أستاذةً للفلسفة السياسية بالولايات المتحدة، وكانت قد قالت عام 1951 في كتابها عن “أصول التوتاليتاريّة” إنّ الهولوكوست كشف عن وجود شرٍّ جذريّ يتجاوز الدوافع العاديّة في الشخصية الإنسانية. لكن غيّرت رأيها فيما بعد عندما حضرت محاكمة أيخمان وشهدت دفاعه عن نفسه المتمثّل في هدوئه وإصراره على أنّه غير مذنب لأنّه كان شخصاً (بيروقراطياً) مجبراً على الخدمة، ومجرّد أداة في أيدي القادة: “وبصفتي هذه فأنا لا أشعر بأنّني شخصيّاً مذنب”.

أنفق جبران باسيل بنفسه ومن طريق وزرائه (ودائماً بموافقة مجلس الوزراء العظيم) ما يزيد على أربعين مليار دولار على الكهرباء، وعدّة مليارات على المشاريع الفاشلة الأُخرى

قالت أرندت: أيخمان شخصية عاديّة، وهناك كثيرون يشبهونه، وهم ليسوا ساديّين، بل هم عاديّون على نحوٍ مريع. فالشرّ في حالته (وهو إجراميّ) ليس ناجماً عن الوحشيّة، بل عن حبّ الارتقاء الوظيفي، مع عدم التفكير في الفعل أو عواقبه. وهكذا تُثبت هذه الأفعال الإجرامية والشرّيرة أنّ الشرَّ بهذا المعنى تافهٌ أو مبتذَل.

ردَّ كثيرون من اليهود والفلاسفة على أرندت، واعتبروها ساذجة، وبخاصّةٍ أنّها ذات أصول يهودية، فيما قال آخرون إنّ عبارتها أُسيء فهمها، وهي لم تعتذر ولم تُدافع عن نفسها.

لكن ما هو الفعل الشرّير؟

هل هو الذي يُرتكب عن قصد وبنيّةٍ مسبقة، أم يُقاسُ الشرّ بالآثار المترتّبة على الفعل؟

ومن جهةٍ أُخرى لماذا يُعاقَب في المحاكم أولئك الذين ينفّذون الأفعال الشرّيرة قتلاً أو فساداً أو خيانةً في وظائفهم إذا كانوا مرسَلين أو مأمورين؟

وهل تقتصر المسؤولية على درجة الهرميّة التي يحتلّها المرتكب في هيكلية الجهاز أو الجهة التي يعملُ فيها؟

ثمّ ما هو الدور الذي تلعبه المسؤولية الفردية في كلّ حالات الارتكاب؟!

بمعنى هل يكون على المأمور أو المتحزّب أن ينفّذ الأوامر مهما بلغت فظاعتها؟

الذين حاكموا أيخمان لم يصدّقوه بالطبع، فهو عضو قديم في الحزب النازي وبلغ فيه رتبةً فوق المتوسّط، وروى شهودٌ عنه أنّه قال عام 1954 إنّه أسهم في قتل خمسة ملايين، ولو استطاع مع زملائه ورؤسائه الوصول إلى الإبادة الكاملة لما تأخّر، لكنّ نهاية الحرب داهمتهم.

ردَّ كثيرون من اليهود والفلاسفة على أرندت، واعتبروها ساذجة، وبخاصّةٍ أنّها ذات أصول يهودية، فيما قال آخرون إنّ عبارتها أُسيء فهمها، وهي لم تعتذر ولم تُدافع عن نفسها

محاكم ألمانيا.. السورية

لقد حوكم حتى الآن أمام المحاكم الألمانية ثلاثةٌ من الذين شاركوا في الحرب بسورية تحت إمرة النظام وقتلوا مدنيين متعمّدين بالقذائف أو بالتعذيب داخل السجون. في العادة تتعامل المحاكم مع القضايا من الناحية القانونية، وليس من النواحي الفلسفية أو جوانب الضمير والمسؤولية الإنسانية. واحدٌ من الثلاثة، وقد اعترف فيما أنكر الآخران، قال إنّه عذّب بالأمر، لكنّ القاضي ما اعتبر ذلك كافياً للتبرئة أو تخفيف العقوبة، فالمهمُّ الارتكاب ولو كنتَ مأموراً.

لكنْ متى تكون الجريمة عاديّة ومتى تصبح إرهاباً أو عملاً من أعمال الحرب أو الإبادة؟

بالطبع محاسبة الدول غير محاسبة الأفراد. إنّما ما هي حدود حقّ الدولة والسلطة في الدفاع عن نفسها أو نظامها؟ وهل يتطلّب الأمر سجن مئات الآلاف، وقتل آلافٍ أُخرى بالكيمياوي والبراميل المتفجّرة وبهجمات الطائرات وبتهجير سبعة أو ثمانية ملايين من الناس، واستقدام روس وإيرانيين للمشاركة في المذبحة؟

فقه الإسلام: التعمّد والقصد

لنعُد إلى قضية الشرّ ومتى يكون إجرامياً ومتى يكون مبتذَلاً أو تافهاً؟

في الفقه الإسلامي تُعتبر النيّة أو القصد والتعمّد، وعندما لا يعود من الممكن التبيّن، يجري النظر في العواقب والتداعيات والآثار.

الدافع إلى كتابة هذه المطالعة ليس التذكير بمقولة حنة أرندت عن الأنواع المختلفة من الشرّ، بل في الواقع ما قرأته في الأيام الأخيرة عن الحالة اللبنانية العامّة وأنّ النيّات قد لا تكون شرّيرة في الأصل، وأنّ كثيراً من المرتكبين تافهون ولا يحسّون بمعنى المسؤولية ولا أقصد هنا البحث في النوايا (مع أنّ ذلك ممكن في عدّة حالات)، بل في الآثار والتداعيات.

المشكلات اليوم، بل منذ سنوات، بلغت حدود تهديد الوجود الوطني والدولة والنظام. وأريد ذكر وضعين لا يحتملان التأويل، وأسهما إسهاماً رئيسياً في ما نزل وينزل بلبنان:

الأول: وضع جبران باسيل وسائر أعماله في النظام منذ عام 2008.

والثاني: وضع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.

ماذا كان باسيل ليفعل بهم (وبخاصّةٍ الوزيرة ندى البستاني.. وأنا حسن الظنّ في العادة بضمير السيّدات) غير إخراجهم من مناصبهم؟ هل كان همّهم جميعاً الارتقاء وكسب المال الحرام ولا شيء آخر؟

فقد أنفق جبران باسيل بنفسه ومن طريق وزرائه (ودائماً بموافقة مجلس الوزراء العظيم) ما يزيد على أربعين مليار دولار على الكهرباء، وعدّة مليارات على المشاريع الفاشلة الأُخرى. وقد تعمّد عبر خمسة عشر عاماً أن لا تُنشأ معامل للكهرباء، وأن لا يُعيَّن لها مجلس، وأن تظلّ الساعات القليلة للتزويد قاصرةً على البواخر التركيّة الشهيرة. وكان قد وعد بعدما كثُرت الشكوى منه أنّه في عام 2015 ستكون هناك كهرباء 24 على 24!

لنفترض كما افترضت حنة أرندت في حالة أيخمان أنّ باسيلاً الباسل يحبّ الارتقاء والسطوة السياسية ولا يفكّر ولا يشعر بالمسؤولية: أفما وُجد بين الوزراء (ومنهم وزير الطاقة الحالي) والمعاونين من يتحرّك ضميره أو يكون لديه إحساس بالمسؤولية عن حياة الناس وعن المال العامّ؟

حتّى الآن الحالة مستعصية، وهم جميعاً ينكرون المسؤولية ويضعونها على النظام العصيّ على الإصلاح. إنّما لنفترض أنّ الظروف تغيّرت وصاروا معرّضين للمساءلة: فهل يقولون إنّهم كانوا عبيداً مأمورين؟

ماذا كان باسيل ليفعل بهم (وبخاصّةٍ الوزيرة ندى البستاني.. وأنا حسن الظنّ في العادة بضمير السيّدات) غير إخراجهم من مناصبهم؟ هل كان همّهم جميعاً الارتقاء وكسب المال الحرام ولا شيء آخر؟

لا أعرف مسؤولاً سياسياً لبنانياً بارزاً تعرّض للمساءلة حقّاً منذ أيام إميل إدّه وبشارة الخوري. لكنّهم كانوا يحاسَبون بطرائق غير مباشرة تؤدّي إلى الفشل في الحياة السياسية. لكنّ بؤس الحياة السياسية المنقطع النظير في لبنان الآن، جعل من جبران باسيل نجماً لا يتعرّض للأُفول، وهو يهجم على كلّ الآخرين من دون أن يتأثّر أو يتأثّروا.

الشكوك برياض سلامة منذ 2001

نجومية رياض سلامة طوال ثلاثين عاماً أكثر لمعاناً من نجومية باسيل. فهو أعظم حاكمٍ لمصرفٍ مركزي في العالم، ومضرب الأمثال في الانضباط المالي الذي لا يتطرّق إليه الشكّ. وهو بالطبع في القرار المالي داخل النظام متفرّد أكثر بكثير من جبران باسيل في القرار السياسي. وقد سمعتُ من خبراء محترمين أنّهم يشكّون فيه منذ 2001 و2002 و2003، عندما كان رفيق الحريري رحمه الله يعمل على باريس -1 وباريس -2، كيف عمل مع السوريين على التفشيل بالهندسة التي ظلّ يمارسُها دوريّاً حتى عام 2020. في كلّ مرّة يلتفت طمعاً برئاسة الجمهورية إلى السياسيين ويشاركهم في فوائد إعادة الهندسة حتى لم يعد هناك مال يمكن إعادة هندسته.

هو يخدمهم ولا يقطع الأمل، وهم يمارسون فسادهم معتمدين على ذمّته الواسعة. وكلّنا عرف عَتَهَ غادة عون وتصرّفاتها الفظيعة (التي تدخل في الشرّ المبتذَل بالفعل!)، لكنّها خدمت اللبنانيين مرّة واحدة وسط سقطاتها الكثيرة، وهي فضح رياض سلامة، وأكمل ذلك الأوروبيون، وأخيراً الأميركيون في قصة حسن مقلّد وولدَيه. وأعود إلى السؤال المكرور: لدى الحاكم العظيم مجلس من ستة أو سبعة يجتمعون كلّ أسبوع، وقد تغيّروا عدّة مرّات، أفما وُجد بينهم صاحب شوارب يقول لسلامة وللّبنانيين: “هذا الرجل فاسدٌ من رأسه إلى أخمص قدميه، وقد أضاع المال العام، ثمّ أضاع أموال المودعين في البنوك”.

إقرأ أيضاً: رحل ميشال عون.. فليرحل قُضاته

مديرو البنوك عالةٌ عليه، لكنْ لماذا لم ينتفض أحدٌ من أعضاء مجالس المصرف المركزي المتوالية؟!

نحن نقول إنّ النظام اللبناني ضعيف ومتصدّع. إنّما كيف يستقيم ذلك مع هذا الصمت المطبق تجاه جبران باسيل ورياض سلامة وغيرهما وغيرهما؟ فكم هو هذا النظام قادر على لملمة صفوفه على الرغم من انهيار كلّ شيء؟! بل وبقي لهؤلاء الفاسدين الذين تنتهي مُدَدُهُم أنصار كبار يريدون لمعظمهم التمديد أو التجديد.

فحتى لو كان هناك شرٌّ تافه (وكلمة: “مبتذَل”، أَوقع)، فإنّه لا يظلّ مبتذَلاً عندما يصبح النظام السياسي في لبنان كلّه كذلك.

مواضيع ذات صلة

لماذا أعلنت إسرائيل الحرب على البابا فرنسيس؟

أطلقت إسرائيل حملة إعلامية على نطاق عالمي ضدّ البابا فرنسيس. تقوم الحملة على اتّهام البابا باللاساميّة وبالخروج عن المبادئ التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الثاني في…

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…