الزعيم وعون والصهر: حصاد الذكريات

2023-02-20

الزعيم وعون والصهر: حصاد الذكريات

ابن خلدون يقول إنّ التاريخ هو خبرٌ عن البشر. وأرنولد توينبي يقول: لا تاريخ بدون تأويل. وابن خلدون يقول إنّ الخبر لكي يتّسم بالصحّة ويكتسب بعض الثقة لا بدّ له من شروطٍ ومعالم مثل أمانة الرواة، والخضوع لمنطق العقل، والاستمرار في المراجعة والتدقيق والتصحيح. وتوينبي يضيف أنّ ذلك كلّه لا يكفي، بل إنّ التاريخ أو استعادته تكون هادفة، ولذلك لا بدّ له من تفسيرٍ أو أكثر، أي ما يُسمَّى تأويلاً.

سيضحك القرّاء عندما يعرفون الغرض من هذه الفلسفة الممتدّة عن التاريخ ومعناه. لكنّني أبرز ذلك بأنّه بحثٌ في أقوال وتصريحات إنسانية تدخل في باب التاريخ الحاضر، كما يقول الفرنسيون، بمعنى أنّ ما يجري الحديث عنه حدث في السنوات القليلة الماضية، ويمتدّ إلى الزمن الحاضر. ولا شكّ أنّ أهمّ شخصيّات التاريخ الحاضر في لبنان شخصيّتان هما: زعيم حزب الله، وجبران باسيل.

 

تصريحات زعيم الحزب

تصريحات زعيم الحزب أخيراً وقد ازداد عددها بعد صمت، تنقض ما سبق له قوله أو فعله. فهو عاد للتهديد بالحرب على الولايات المتحدة باعتبار أنّها تريد نشر الفوضى في لبنان، وتابع أنّ الحرب التي سيشنّها لمكافحة التأثير الأميركي ستكون مفاجئةً وشديدة الفظاعة، ثمّ فهمنا أنّها ستكون على إسرائيل. ولذلك، كما فهمتُ، علّتان: ردع الأميركيين عن نشر الفوضى (!)، وعدم السماح لإسرائيل باستخراج الغاز من حقل كاريش حتى يستفيد لبنان من غازه الشهير.

جبران باسيل الحليف السابق للحزب المسلَّح، فمشكلته ليست مع التاريخ، بل مع الحاضر والمستقبل

كان سلامٌ قد ساد لشهور وشهور بين الحزب والولايات المتحدة وإسرائيل جرت خلالها المفاوضات على ترسيم الحدود البحرية، بغرض تقاسم الثروات البحرية بين إسرائيل ولبنان. وكان المتوقّع أنّ الطرفين خرجا راضيين: إسرائيل حصلت على ما تريد، والحزب وميشال عون كذلك، مع أنّ عوناً، شأنه في ذلك شأن الياس بو صعب، ما كان له دورٌ حقّاً، لكنْ ألم نقُل إنّ التاريخ يحتاج إلى تأويل وأغراض، حتى لو كان حاضراً؟ طبعاً إسرائيل التي عملت لسنواتٍ على الحقول، بدأت بالإنتاج والتصدير مطمئنّةً إلى أمرين: أنّها اتّفقت مع الحزب المسلَّح، ثمّ أنّها تستطيع حماية ما تقوم به إن شاء الحزب إزعاجها. ولا نعرف عن أخبار غاز الحزب الشهير أخيراً إلّا أنّ قطر دخلت في الكونسورتيوم المتعلّق بالغاز إلى جانب شركتَيْ “إيني” و”توتال”، ولمّا هدّد الزعيم بالحرب نشرت الشركات أخباراً عن التفاؤل الكبير بشأن النتائج المتوقَّعة للحفر بعد سنواتٍ طبعاً! ومن جهة أخرى أو ثالثة، فقد انتشرت أخيراً أخبارٌ عن تقريب الحزب لمدافعه وصواريخه من البحر ليهدّد بذلك إسرائيل.

 

اصطناع التوتر

إذا شئنا التدقيق فليست هناك أخبارٌ حقّاً، بحيث يمكن تأويلها، إنّما هناك أهداف من وراء اصطناع التوتّر الآن، وهي متعلّقة بإيران والحزب أكثر ممّا هي متعلّقة بالفوضى الضاربة أطنابها في لبنان ليس منذ الآن، بل منذ سنوات. طبعاً سبق لزعيم الحزب لإصلاح الأوضاع أن اقترح مراراً: الاستعانة بإيران، والتوجّه شرقاً، والاهتمام بالزراعة. لكنّه لا يريد الآن معاقبة الحكومة التي لم تُصغِ لاقتراحاته البنّاءة، بل يريد معاقبة الولايات المتحدة بالذات. لماذا؟ لأنّ الأميركيين عاقبوا أخيراً شركات حسن مقلّد المقرَّب من الحزب وسورية، والضالع مع حاكم المصرف المركزي في تهريب الأموال وغسلها، ولأنّهم يعلنون دعمهم للتمرّد الشعبي في إيران، ويلاحقون مع الأوروبيين شبكات الحرس الثوري والحزب في أوروبا وأميركا الجنوبية، ويزيدون من شدّة العقوبات على إيران بسبب سلاحها المصدَّر إلى روسيا. وإسرائيل من جهتها تضرب الحزب والحرس الثوري في سورية. والرئيس الإيراني يزور الصين رجاء تطبيق الاتفاق الاستراتيجي بينهما، والزيادة في صادرات النفط الإيراني للصين التي انهال عليها طوفان البترول والغاز الروسيَّين وما عادت تحتاج إلى المزيد.

ماذا يفعل الحزب الذي لا يستطيع أن يبقى ساكناً أمام الهجوم الأميركي على كلّ المستويات؟ التهمة الجاهزة لأميركا: نشر الفوضى، ولإسرائيل تصدير الغاز من كاريش في حين لم يبدأ لبنان بعد بأيّ شيء! الحزب يهدّد بالحرب وهو يعرف أنّها خطرٌ عليه أكثر ممّا هي خطرٌ على إسرائيل. وسيقول فيما بعد إن حصل شيء: إنّ الأعداء خالفوا قواعد الاشتباك.

لا يهُمُّ نصر الله أن يقول اليوم خلاف ما قاله أو تصرّف بحسبه بالأمس، فهو قويّ بالمقاييس اللبنانية ولا يستطيع أحد محاججته. كما لا يهمّه ما ينزل بلبنان، ومن ضمنه جمهوره، عندما يكون المقصود رفع الحصار عنه وإفادة إيران.

مشكلة جبران مع الحاضر

أمّا جبران باسيل الحليف السابق للحزب المسلَّح، فمشكلته ليست مع التاريخ، بل مع الحاضر والمستقبل. فما عاد المسيحيون بيده، ولا رئاسة الجمهورية، ولا يحتاج الحزب إلى باسيل، باستثناء ما يُقال عن “الميثاقية” المزعومة، التي يمكن استخدامها في الشيء وعكسه. وبخلاف زعيم الحزب الذي يقول اليوم ما قاله أول من أمس إنّما لاستهدافٍ آخر، فإنّ باسيل لا يأبه إذا قيل إنّ ما يصرّح به غير صحيح، ويناقض تاريخه كلّه. لا شكّ أنّه لا يستطيع تعيير خصومه بالفساد، ولا يستطيع الزعم أنّ كفّته راجحة بالموازين المسيحية، ولا يستطيع اتّهام الآخرين بتعطيل انتخاب الرئيس، فكلّها أمورٌ هو أوّل القائمين بها وعليها. وقد ضجّت من ارتكاباته الأرض والسماء والأميركيون.

إقرأ أيضاً: لا أحد مستعجل… والرئاسة بعيدة

لماذا تلك التصريحات العنتريّة إذن؟ لأنّه يعتبر أنّه فقَد كلّ شيء فلا أقلّ من أن يتحرّش بالآخرين، ويكسر مزراب العين. كلّما ذُكر مرشّحٌ للرئاسة هبَّ معارضاً ومتّهماً. وكلّما دُعي إلى التشاور أبى رافضاً كلّ شيء سلفاً. وكنّا نظنّه يخشى الحزب المسلَّح فبدا أنّه لا يخشاه على الإطلاق. لماذا هذا كلُّه؟ هو جنون اليأس أو راحته كما يُقال. أنا واحدٌ من الناس الذين ظنّوا قبل شهور أنّه سيفاوض لكي يكونَ له وجود مع الرئاسة اللاحقة، وفي الحكومات، بقدر ما يمكن ذلك. لكنّه ضيّق جدّاً بحيث لا يرى غير مصلحته الشخصية المباشرة. ولأنّها ما عادت مؤمَّنة ولا مأمولة، فهو ذاهبٌ إلى الانتحار قبل أن يسيطر عليه وعلى التيّار غير الحرّ: الاندثار! هل يبقى من التيار العونيّ شيء؟ نعم، بقدر ما بقي من الحزب السوري القومي!

أمّا زعيم الحزب فربّما تبقى في الذكريات حروبه. وأمّا عون وتيّاره وصهره فلن يبقى منهم غير ذكريات الإيصال إلى جهنّم.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@

مواضيع ذات صلة

“أبو مازن”.. اعتمر الكوفيّة وعد إلى أهلك في جنين

هي رسالة إلى “أبو مازن” ندعوه فيها إلى اختصار الطريق، والذهاب إلى حيث يجب الذهاب وسط هذا التهديد الكبير. الأخ “أبو مازن”. تحيّة وبعد. أنت…

مناظرة تكتيكيّة: هاريس نحو التّعادل وترامب يصوّب على الهدف

منذ إطلاق أوّل مناظرة رئاسية متلفزة عام 1960، لم تكتسب المناظرات التلفزيونية أهمّية في تحديد هويّة من سيصل إلى البيت الأبيض كانتخابات هذه السنة نتيجة…

صفقات أميركا مع إيران: العراق يتقدّم على لبنان

يشكّل العراق كما جرت العادة في العقدين المنصرمين الساحة الرئيسة للمساومات بين إيران وأميركا، على الصعيد الإقليمي. في هذا المجال تتقدّم تلك الساحة على ساحة…

الحجّار وسلامة.. شجاعة رجلين

بعيداً عن الشعبوية والشماتة، ما يجب تأكيده في قرار مدّعي عام التمييز القاضي جمال الحجار بتوقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، أنّ أمامنا قصّة…