زلزال أنطاكية وحلب: مدن معطوبة.. وسقوط عميم

مدة القراءة 5 د

في الأزمنة الكلاسيكية والعصور الإسلامية الوسيطة كانت مدينة ومنطقة الزلازل الحاليّة تسمّى أنطاكية. وهي مهدٌ مبكرٌ لانتشار المسيحية، وهذا سرُّ ظهورها في ألقاب رجال الدين الكبار للطوائف الشرقية: “أنطاكية وسائر المشرق”. لكنّنا، نحن العرب وسكّان أنطاكية، وكان معظمهم عرباً، سمّيناها باسم “إسكندرون”، الذي ألصَق أجزاءها بسورية العربية، فيما أصرّ أتراك كمال أتاتورك على تسميتها هاتاي، وهي تسميتها حتى اليوم لديهم. كان سكّانها العرب في الثلاثينيّات يريدونها أن تصبح جزءاً من الدولة الوطنية السورية، وكان الأتراك الكماليّون يطالبون بها وبالموصل. وفي العلاقات بين دول الاستعمار اعتمد العرب على نهوضهم الوطني وعلى فرنسا وبريطانيا لحماية دولهم الجديدة (وهما منتدَبتان عليها)، لكنّ فرنسا سلّمت أنطاكية أو إسكندرون لأتاتورك، فيما حمت بريطانيا الموصل.

في الأزمنة الكلاسيكية والعصور الإسلامية الوسيطة كانت مدينة ومنطقة الزلازل الحاليّة تسمّى أنطاكية. وهي مهدٌ مبكرٌ لانتشار المسيحية، وهذا سرُّ ظهورها في ألقاب رجال الدين الكبار للطوائف الشرقية

لينا هَوْيان الحسن

يقال: ربّ مصادفة خير من ميعاد. فقد وجدتُ على اللائحة القصيرة لجائزة الشيخ زايد لهذا العام روايةً للينا هَوْيان الحسن اسمها: “أنطاكية ومُلوك الخفاء”. تعرّفتُ على الروائية بأبوظبي فأهدتْني الرواية فوجدتُها تدور في العمق على مشكلة أنطاكية مع الأتراك أو بين العرب والأتراك في الثلاثينيّات من القرن العشرين الذي انقضى ولم تنقضِ مصائبه. تقول لينا الحسن إنّها من أصول بدويّة (!)، لكنّها في روايتها تبدو عريقةً في مدنيّتها ومنحازة إلى عروبة المدينة والإقليم والحضارة، وكذلك كانت مدينة أنطاكية العريقة المرتبطة بحلب منذ عصورٍ وعصور. وقد لجأت الروائيّة إلى التخييل شأن كثيرٍ من الروائيين، إذ بدت صعوبات الأفراد والجماعات بأنطاكية عصيّةً على التعقُّل ولا بدّ من اللجوء إلى الأسطورة والسحر والتاريخ السحيق القدم لتفسير ما لا يمكن تفسيرهُ من أهوال الحاضر في هذه المنطقة وفي مناطق أخرى بهذا الشرق التعيس.

الدكتور عمر كايد تلميذي السابق، الذي أنشأ مؤسسةً إعلاميةً بإسطنبول، وزار مناطق الزلزال مستكشفاً، قال في تقريرٍ له إنّ مدينة أنطاكية الجميلة والعريقة والحديثة، كلّها سيطر عليها الخراب. إنّما هذه المرّة أيضاً ارتبطت مصائر أنطاكية بمصائر حلب. بيد أنّ حلباً ما استطاعت إنجاد أنطاكية كما كانت تفعل لأنّها خربت قبلها في الحرب الداخلية والعالمية بسورية، وتشاركها الآن في السقوط المدوّي تحت وطأة الزلزال الهائلة.

يبلغ ضحايا الزلزال بتركيا أكثر من خمسة وعشرين ألفاً، والمصابون حوالى مئة ألف. وسقطت آلاف المباني على رؤوس السكّان عند فلق الصبح، وهناك ثمانية آلاف مبنى متصدّع في المحافظات العشر في ما وراء أنطاكية باتجاه سورية وما حولها ينبغي إزالتها بسرعة. ويقدّر رامي عبد الرحمن الناشط السوري الذي أنشأ بالخارج هيئةً لحقوق الإنسان أنّ عدد الضحايا في سورية في سائر المناطق يبلغ ما يزيد على ستّة آلاف، أمّا المباني المنهارة والمتصدّعة فما أحصاها أحدٌ بعد.

المأساة السوريّة لا نهاية لها. وفي كلّ البلدان العربية المأزومة، حتى في اليمن، تتنافس عدّة جهاتٍ على ادّعاء خدمة الناس، في حين أنّ سورية متروكة، وسواء في ذلك مناطق النظام أو مناطق العُصاة

السوريون.. وحدهم

الأتراك الذين تلقّوا مساعدات من سبعين جهة خارجية، كما قال الرئيس رجب طيب إردوغان، لا يشكون كثيراً على الرغم من الأهوال، ويقول المسؤولون إنّهم سيبنون كلّ شيء خلال عام، وأمّا المشرّدون فجرى إنجادهم جميعاً بشكلٍ مؤقت والعمل جارٍ للتعويض عليهم بقدر الوسع والطاقة. أمّا في سورية فالحال على غير ذلك، ليس بسبب مشكلات النظام السوري مع العالم الغربي فقط، بل وبسبب المشكلات المعقّدة بالداخل السوري. فالنظام لم يسمح بدخول المساعدات إلى مناطق المعارضة بالشمال والشمال الغربي إلّا يوم السبت في 11/2، وهو يشترط أخذ الحصّة الكبرى. وما دخل من تركيا إلّا أقلّ القليل بسبب خراب الطرق، ولأنّ الدوليين لا يدخلون إلّا من معبر باب الهوا، ويفضّلون بسبب الاتفاق بمجلس الأمن أن يدخلوا من أقاليم النظام. وهناك مشكلة أخرى تتمثّل في كون المساعدات الآتية من كردستان لا تقبل فصائل المعارضة العظيمة في مناطق شمال سورية وشمال غربها الخاضعة للأتراك استقبالها على الرغم من شدّة الحاجة إليها.

على أيّ حال، في الأسبوع الأوّل للزلزال وجد السوريون أنفسهم، وبخاصة في الشمال والشمال الغربي، وحدهم، وهم يحاولون بقواهم الذاتية التعامل مع الكارثة. وتقول المؤسّسات الدولية والصليب الأحمر إنّها قصّرت بالفعل وستحاول تجاوُز التقصير ولو بعد فوات الأوان. هذا ويحتاج ثلثا سكّان مناطق الشمال، وعددهم 5.5 ملايين، إلى الأغذية والأدوية والتدفئة، وقد فقدوا مآويهم الهشّة للمرّة الثالثة أو الرابعة.

وكما في كلّ مرّةٍ، ليس منذ الحرب الداخلية (2011) فقط، بل منذ أحداث حماه عام 1981، تفوح الروائح الكريهة للتمييز الطائفي والمظالم الطائفية. وفيما يدعو النظام السوري إلى عدم تسييس المساعدات، يردّ عليه الاتحاد الأوروبي بالطلب منه أن لا يسيِّس المساعدات، وأن يسمح بدخولها إلى المناطق التي لا تخضع لسيطرته.

المأساة السوريّة لا نهاية لها. وفي كلّ البلدان العربية المأزومة، حتى في اليمن، تتنافس عدّة جهاتٍ على ادّعاء خدمة الناس، في حين أنّ سورية متروكة، وسواء في ذلك مناطق النظام أو مناطق العُصاة.

إقرأ أيضاً: واشنطن تخون الشعب السوريّ…. مرّة أخرى!

في التاريخ والعصر الحديثَين، كانت مناطق الشمال السوري والعراقي تعتمد في الأزمات وفي أزمنة الرخاء على كلٍّ من حلب والموصل. وقد خربت المدينتان خراباً لا يُرجى بعده قيام. الجميع يعيش ليومه أو نصف يومه. وما تزال ميليشيات العراق المعروفة تتحكّم بالموصل وصلاح الدين والأنبار لزيادة مصائبها. وكانت سورية النظام تعتمد على لبنان في تهريب الأموال والبنزين والغاز والمخدّرات. وقد سقط لبنان، وازدادت سورية سقوطاً. فلا حول ولا قوّة إلّا بالله.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…