لم يكن ليخطر في بال بشّار الأسد أنّه في سعيه إلى تحقيق مكاسب سياسية عبر استغلال الزلزال الكارثيّ الذي ضرب سوريا (وتركيا) سيأتيه الدعم والسند من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. فقرار وزارة الخزانة الأميركية بتعليق بعض العقوبات المفروضة على سوريا لمدّة 180 يوماً، بغية السماح بتسهيل جهود الإغاثة “التي كانت ستُقيّد بموجب لوائح العقوبات”، أضفى مصداقية كبيرة على بروباغندا نظام الأسد بأنّ العقوبات تعرقل جهود المساعدة. لقد نجحت حملة التضليل التي شنّتها حكومة الأسد في خداع الكثيرين في العالم للاعتقاد بأنّ رفع العقوبات عن البلاد هو شرط مسبق لتوصيل المساعدات إلى المتضرّرين من الزلزال، خلافاً لحقيقة أنّه لا علاقة بين الاثنين، على ما يدلّ استمرار وصول المساعدات إلى المحتاجين إليها منذ سنوات وفي ظلّ العقوبات نفسها.
ولئن شدّد بيان الخزانة الأميركية ذاته على أنّ “برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قويّة للجهود الإنسانية”، يجوز السؤال عن سبب قرار إدارة بايدن تخفيف العقوبات ومنح الأسد نجاحاً دبلوماسياً وسياسياً قيّماً.
صفقة بين الغرب والأسد
كرم شعّار، وهو خبير اقتصادي سياسي، ومستشار موثوق متخصّص في الملفّ السوري، شرح بالتفصيل عبر حسابه على منصّة تويتر ما يبدو أنّه صفقة تمّ إبرامها بين الدول الغربية المانحة ونظام الأسد لإيصال المساعدات إلى المتضرّرين من الزلزال الأخير:
انتظرت حكومة الأسد خمسة أيّام بعد الزلزال المدمّر للموافقة على إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق الخارجة عن سيطرتها في شمال البلاد
مقابل تجميد وزارة الخزانة لبعض العقوبات على سوريا لمدّة 180 يوماً، يقول الشعّار إنّ نظام الأسد وافق على توفير سعر صرف عادل للأموال المحوَّلة إلى الأمم المتحدة والجهات الإنسانية الأخرى والمخصّصة لجهود الاستجابة للزلزال، وإعلان بعض المحافظات “مناطق منكوبة”، وهو ما يمنح الجهات الفاعلة الإنسانية مزيداً من الاستقلالية في إدارة المساعدات، وأخيراً الاتفاق على تقديم مساعدات عبر المعابر إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في شمال غرب سوريا.
إن ثبتت صحّة ذلك، تكون إدارة بايدن قد اختارت تسوية تافهة مع الأسد، على حساب أرواح لا تُحصى من السوريّين، وفوّتت فرصة إظهار شجاعة سياسية تتناسب مع حجم مسؤوليّتها في الأزمة السورية التي بدأت منذ 2011.
تفاهة التسوية
انتظرت حكومة الأسد خمسة أيّام بعد الزلزال المدمّر للموافقة على إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق الخارجة عن سيطرتها في شمال البلاد. أُعلن يوم الجمعة عن “الاتّفاق” المذكور، بعدما مات مَن مات تحت الأنقاض، فيما لم يتّضح إلى الآن إن كانت طبيعة المعونات المقدّمة تتناسب مع حجم الكارثة.
يكفي للتيقّن من تفاهة التسوية التي عقدتها واشنطن مع الأسد تحت الطاولة، النظر إلى أنّ الاتفاقات السابقة مع الأمم المتحدة لإيصال المساعدات إلى المقيمين في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة في شمال سوريا، لم تمنع توقّف تدفّق المساعدات المفترضة طوال الأسابيع الثلاثة الماضية، وسط مناشدات صارخة من الجمعيّات المعنيّة على الأرض.
يحتاج المرء إلى الكثير من حسن النوايا والسذاجة ليثق بأيّ وعود يقدّمها طاغية بقسوة بشار الأسد لا يرى في مآسي السوريين الكثيرة، خاصة في شمال غرب سوريا، إلّا فرصة لتعزيز أهدافه السياسية الخاصة، ولا يتردّد في استخدام المساعدات الدولية سلاحاً في مواجهة خصومه في الداخل والخارج.
وجّه مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة، بسام الصباغ، رسالة واضحة، بهذا المعنى، في مؤتمر صحافي عقده في نيويورك في أعقاب الزلزال قال فيه: “نحن مستعدّون للعمل مع كلّ من يريد توفير الدعم لسوريا، من داخل سوريا. الوصول من داخل سوريا متوفّر. من يرغب في مساعدة سوريا يمكنه التنسيق مع الحكومة وسنكون مستعدّين للقيام بذلك”.
الرسالة واضحة: تواصلوا معنا، أو غامروا بترك الناس يواجهون الموت.
المساعدات سلاحاً في ترسانة الأسد
حقيقة الأمر أنّه لأكثر من عقد من الآن، استخدم نظام الأسد أدواته للقمع والسيطرة بكفاءة قاتلة، بما في ذلك إساءة استخدام المساعدات الدولية. فعلى الرغم من الجهود الدؤوبة التي بذلتها وتبذلها الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الأخرى على امتداد الحرب السورية، ما يزال تسييس المساعدات يشكّل عائقاً هائلاً أمام إيصال المساعدات الحيوية إلى المحتاجين إليها، وهو ما يُديم حال البؤس التي يعيشها السوريون ويزيد من حدّة الأزمة الإنسانية الأليمة أصلاً في البلاد.
إنّ استغلال نظام الأسد للمساعدات ظاهرة واضحة وموثّقة ومستمرّة منذ اندلاع الصراع في عام 2011. ولطالما كان تخصيص المساعدات سلاحاً في ترسانة نظام الأسد للتلاعب والسيطرة. كانت الإمدادات تُنقل بانتظام إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، فيما تُركت أو صودرت أو سُرقت أو أُتلفت تلك الموجودة في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة ما أمكن. وفي أحيان كثيرة اضطرّت المنظّمات الإنسانية إلى التفاوض مع الحكومة للوصول إلى مناطق إيواء المحتاجين، وكثيراً ما اضطرّت إلى دفع رشى أو تقديم تنازلات للحصول على إذن بتوزيع المساعدات.
أمّا في المناطق الواقعة تحت الحصار، فكان الطعام يُستخدم عادة وسيلةَ ضغطٍ لإكراه الناس على الاستسلام أو لمعاقبة المعارضة كما حصل في مضايا وجوارها. بالإضافة إلى ذلك، وثّقت تقارير دولية توظيف نظام الأسد لآليّات المساعدات والتعاون في توزيعها من أجل جمع المعلومات الاستخبارية ومراقبة عمليات المنظّمات الإنسانية والناشطين على الأرض.
ووثّقت تقارير دولية، منها تقرير الحملة السورية “جرائم الحرب في سوريا: دور الهلال الأحمر السوري”، حقيقة أكثر إثارة للقلق في عام 2016. بحث التقرير في دور الهلال الأحمر العربي السوري في توزيع المساعدات في سوريا أثناء النزاع، وكشف أنّ المنظّمة التي يُفترض فيها الحياد، تخضع للتلاعب من حكومة الأسد، وتُوظَّف لتعزيز أجندة النظام السياسية والعسكرية، من خلال تحويلها إلى جزء لا يتجزّأ من استراتيجية نظام الأسد للسيطرة على إيصال المساعدات في البلاد والتلاعب بها.
خير دليل على دقّة هذا الاستنتاج جاء خلال مؤتمر صحافي عقده في دمشق رئيس الهلال الأحمر العربي السوري خالد حبوباتي بعد الزلزال، دعا فيه الاتحاد الأوروبي إلى “رفع عقوباته عن سوريا” في ظلّ الدمار الهائل الذي أحدثه الزلزال. وقال حبوباتي إنّ العقوبات تفاقِم “الوضع الإنساني الصعب”. وأضاف أنّه “لا يوجد وقود حتى لإرسال قوافل (مساعدات وإنقاذ)، وهذا بسبب الحصار والعقوبات”، وهو ترداد حرفيّ لدعاية النظام الكاذبة. فقانون قيصر، وهو مجموعة من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على سوريا، ويهدف إلى إجبار نظام الأسد على وقف حربه ضدّ الشعب السوري، ينصّ بوضوح على ما يلي: “قانون قيصر والعقوبات الأميركية الأخرى على سوريا لا تستهدف المساعدة الإنسانية للسوريين أو تعرقل جهودنا لتحقيق الاستقرار في شمال شرق سوريا”.
إقرأ أيضاً: الاستثمار في الكوارث الطبيعيّة
الحقيقة التي لا مفرّ منها أنّ مأساة الزلزال في سوريا تفاقمت بسبب السياسة الوحشيّة لنظام الأسد، الذي سعى إلى استخدام الكارثة أداةً للاستغلال السياسي. كان من الممكن إنقاذ آلاف الأرواح البريئة، جزئيّاً، عبر ردّ دولي أكثر حسماً وقيادة متنبّهة لتكتيكات الأسد وألاعيبه، وإدخال أدوات ومعدّات الحفر والتنقيب والإنقاذ إمّا من المنافذ بين تركيا وسوريا وإمّا عبر القواعد الأميركية المتمركزة في مناطق قريبة من المناطق المنكوبة.
لم يكن الزلزال وحده هو الذي أودى بحياة هذه الأرواح، بل الحقد الذي لا ينتهي لنظام الأسد على السوريين، واللامبالاة المشينة للمجتمع الدولي، ولا سيّما إدارة بايدن.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@