لماذا تغامر إيران بدعم بوتين ضدّ أوكرانيا؟

مدة القراءة 9 د

تلقّت إيران ليل الأحد الماضي غارةً بالطائرات المسيّرة الإسرائيلية، في قلب أصفهان، كان هدفها مجمّعاً حربيّاً متنوّع الاستخدامات والأصناف التي تتوزّع بين مسيّرات وصواريخ باليستية وأسلحة تقليدية وغير تقليدية، وتمّت على يد عملاء الموساد في الداخل، كما جاء في وسائل إعلام إسرائيلية. الحدث غير عاديّ، على الرغم من الأحداث المشابهة التي توالت منذ عام 2020، واستهدفت مواقع وأشخاصاً ذات علاقة بالمشروع النووي الإيراني، وبعض قياديّي الحرس الثوري.

هدف موسكو ذو طابع نفسي: نشر الرعب الذي من شأنه تقويض الروح المعنوية الأوكرانية، وإجبار الحكومة على الخضوع لشروط بوتين

هذه المرّة، كان للموقع، أو المواقع، أبعاد ثنائية إن صحّ التعبير. حتى لو كانت إسرائيل هي الجهة الفاعلة، لكنّ المستفيدين يتجاوزون هواجس الأمن القومي الإسرائيلي، والخشية من تطوير طهران سلاحها النووي إلى جانب الصواريخ القادرة على حمل رؤوس تقليدية ونووية، من دون إغفال خطر المسيّرات الرخيصة الثمن، والقادرة على إلحاق أضرار جسيمة بالبنى التحتية كما أثبتت تجربة أوكرانيا منذ أواخر العام الماضي.

أوكرانيا هي مستفيدة حتماً من الغارة الإسرائيلية، إذ إنّ إيران تصدِّر المسيّرات إلى روسيا، وثمّة اتفاق أيضاً على توريد الصواريخ الباليستية إليها. والغارة في المدى الأوسع تحظى بالموافقة الأميركية، للسبب نفسه، أي ردع إيران عن مساندة روسيا في محاولتها استرداد زمام المبادرة في ميادين القتال بأوكرانيا، وحماية أمن إسرائيل من الأسلحة الإيرانية (مسيّرات وصواريخ) ومن الأسلحة الروسية الحديثة التي من المتوقّع أن تحصل عليها طهران من روسيا (طائرات وزوارق) مقابل مساهمتها في المجهود الحربي في أوكرانيا.

لماذا انحازت إيران؟

لكن ما الذي دفع طهران إلى الانتقال من الموقف المتحفّظ بإزاء الغزو الروسيّ لأوكرانيا مع تفهّم شكوى الروس من توسّع حلف الناتو في شرق أوروبا وصولاً إلى أوكرانيا التي تمثّل لروسيا العمق الاستراتيجي والمدى الرمزي تاريخياً، إلى موقف المشارك بفعّالية إلى جانب روسيا من خلال توريد الأسلحة والخبراء إليها؟

ثمّة محطّة فاصلة قلبت المزاج في القيادة الإيرانية، في أيلول الماضي، عندما انطلقت الاحتجاجات في أرجاء إيران، عقب وفاة الفتاة الكردية مهسا أميني في مركز اعتقال لشرطة الأخلاق بسبب حجابها غير المطابق للمواصفات. في ذلك الشهر، واجهت روسيا أسوأ انتكاسة عسكرية في إقليم خاركيف. وبدا أنّ كلا النظامين يواجهان خطراً مشتركاً مصدره الغرب، سواء أكان حراكاً عسكرياً أو ثقافياً أو شعبياً.

تطوّر الموقف الإيرانيّ

تاريخياً، لم تؤيّد إيران إجراءات روسيا في جورجيا عام 2008، ولا في أوكرانيا عام 2014. فموقفها المبدئي هو الامتناع عن دعم أيّ تغيير للحدود المعترف فيها، أو إعطاء الأقليّات حقّ تقرير المصير، والانفصال عن المركز، لإمكان ارتداد ذلك على طبيعة إيران المتعدّدة القوميّات، ووجود نزعات استقلالية في أطرافها النائية. لذلك لم تعترف بجمهوريّتَيْ أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الانفصاليّتين بعد الحرب الروسية الجورجية عام 2008. ولم تعترف أيضاً بجمهورية دونيتسك أو جمهورية لوهانسك المنفصلتين عن أوكرانيا. وهذا الموقف يتناسب مع معارضتها لاستقلال كوسوفو في عام 2008، عندما انضمّت طهران إلى روسيا في التأكيد على وحدة أراضي صربيا.

على النسق نفسه، كان موقف طهران من الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي. فحين اتصل فلاديمير بوتين بنظيره الإيراني إبراهيم رئيسي بعد ساعات من بدء العملية الروسية في 24 شباط الماضي، لإبلاغه بـ”العملية العسكرية الخاصّة”، أعرب رئيسي عن تفهّم إيران للمخاوف الأمنيّة لروسيا، مؤكّداً أنّ “توسّع الناتو يشكّل تهديداً خطيراً لأمن الدول المستقلّة واستقرارها”. وأشارت التصريحات الرسمية الصادرة عن وزارة الخارجية الإيرانية إلى تفضيل طهران الحلّ السلميّ للصراع، بينما وجّهت اللوم إلى الولايات المتّحدة بشكل مباشر أو غير مباشر بشأن إثارة القتال في أوكرانيا أو تصعيده. ووصف المرشد الأعلى علي خامنئي أوكرانيا بأنّها “ضحيّة للأزمات التي اختلقتها الولايات المتحدة”. هذا الموقف المؤيّد أيديولوجيّاً لروسيا في نزاعها مع الغرب، لم ينسحب على الموقف من انفصال المناطق المأهولة بالروس في أوكرانيا.

الجديد في الموقف الإيراني، في الخريف الماضي، بحسب تقرير لمؤسسة كارنيغي الأميركية، ظهور الطائرات بدون طيّار الإيرانية القاتلة شاهد-136، الملقّبة بـ “جزّازات العشب” أو “الدرّاجات البخارية” بسبب صوتها، في سماء أوكرانيا، وتسبّبها في تدمير شبكات الكهرباء، والمحطّات الكهربائية الفرعية، وخطوط أنابيب المياه، وخطوط السكك الحديدية والسدود وغيرها من البنية التحتية الحيوية في البلاد، حتى إنّ صفّارات الإنذار من الغارات الجوّية عادت تدوّي في المدن، في تذكير صارخ بالأيام الأولى للحرب، وبحيث يقدّر الخبراء أنّ روسيا طلبت استيراد ما مجموعه 1,700 طائرة إيرانية بدون طيّار (UAV) من أنواع مختلفة لشنّ هجمات ضدّ القوات الخاصة الأوكرانية، والوحدات العسكرية، والدفاع الجوّي، ومستودعات تخزين الوقود.

هدف موسكو ذو طابع نفسي: نشر الرعب الذي من شأنه تقويض الروح المعنوية الأوكرانية، وإجبار الحكومة على الخضوع لشروط بوتين. كانت موسكو قد خسرت سرديّة الحرب بعد انتكاساتها المتتالية في الشمال والشرق والجنوب، فلجأت إلى المسيّرات الإيرانية لتبديل السرديّة. ومع ذلك، إذا كانت الفوائد المرتجاة من حملة الطائرات بدون طيار مشكوكاً فيها بالنسبة إلى روسيا، فلا يمكن قول الشيء نفسه بالنسبة إلى إيران. إذ إنّ دخول إيران الصراع كما فعلت تركيا مع الطائرات بدون طيار من طراز بيرقدار TB2، التي زوّدت بها الجيش الأوكراني، يشير إلى تحوُّل جيوسياسي أكثر جدوى. ففي العقد الماضي، تطوّرت تكنولوجيا الطائرات بدون طيّار بشكل سريع، مع بروز قوى صاعدة، مثل إيران وتركيا وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة في المقدّمة. أصبحت التكنولوجيا المستخدمة في صنع الطائرات بدون طيّار أكثر فعّالية من حيث التكلفة والتوصّل إليها، وهو ما أدّى إلى تحقيق الأرباح والعوائد الجيوسياسية.

كانت غارة أصفهان رسالة واضحة تؤكّد عزم الولايات المتحدة وحلفائها، ولا سيّما إسرائيل، على التصدّي بقوّة للطموح الإيراني التقليدي والنووي على حدٍّ سواء، مع إهمال الدول الراعية للاتفاق النووي لمساعي تجديده في الوقت الراهن

حاجة روسيّة وطموح إيرانيّ

هناك عاملان يساعدان في تفسير تصدير إيران للطائرات بدون طيار إلى روسيا بحسب التقرير السابق ذكره.

 العامل الأوّل: حاجة موسكو إلى نظام رخيص من المسيّرات، وقابل للاستهلاك لضرب البنية التحتية الأوكرانية. على سبيل المثال، تتميّز المسيَّرة شاهد-186، بجناح مثلّث يعمل بشكل مستقلّ، ويحمل رأساً حربياً يتجاوز وزنه 40 كيلوغراماً مصمّماً للانفجار عند الارتطام بالهدف. هذه الوحدات ذات الاستخدام الفردي تكلّف 20 ألف دولار فقط. في المقابل، يكلّف صاروخ واحد من صواريخ كروز كاليبر Kalibr الروسية، التي استخدمتها موسكو على نطاق واسع في الحرب، مليون دولار. أمّا طائرات بيرقدار التركية التي يستخدمها الجانب الأوكراني، فيراوح سعر الطائرة الواحدة منها بين مليون دولار ومليونَيْ دولار، من دون احتساب تكاليف “المنصّة” لمحطّات القيادة المحمولة ومحطّات الاتصالات، التي يمكن أن تكلّف عشرات الملايين من الدولارات. وعلى الرغم من تكلفتها الرخيصة، تحتفظ طائرات شاهد بقدرات مهمّة، بما في ذلك القدرة على التهرّب من الرادار، والعمل في مدى طويل يصل إلى 1,500 ميل (الميل يساوي 1.6 كيلومتر). وبالمقارنة، فإنّ الطائرات بدون طيّار الأميركية من نوع سويتشبلايد Switchblade، التي أرسلتها الولايات المتحدة إلى أوكرانيا، تعمل فقط في نطاق 25 ميلاً. وإلى ذلك، تغطّي الطائرات الإيرانية بدون طيّار ثغرة إنتاجية حرجة لدى موسكو. فقد تأخّرت روسيا بإعطاء الأولوية لتطوير الطائرات بدون طيّار. وتمتلك الشركات المصنّعة مثل Kronstadt Group عدداً من النماذج التي يمكن أن تحمل كميّات كبيرة من المتفجّرات، ولديها ميزات متقدّمة مثل قدرة الاتصال عبر الأقمار الصناعية لنطاق أطول، لكنّها لا تزال بعيدة عن الإنتاج. أمّا الطائرات بدون طيّار التي تنتجها روسيا حاليّاً، فمداها قصير، ورؤوسها الحربية صغيرة، وهو ما يجعلها أدنى مستوى من الخيارات الإيرانية المتاحة. على المدى القصير، تقوم الطائرات بدون طيّار الإيرانية بدورها إلى أن يتمكّن الكرملين من تصنيع الطائرات بدون طيّار محليّاً. لكن من غير الواضح هل ستكون موسكو قادرة على إنتاج المسيّرات على نطاق واسع، نظراً إلى شدّة العقوبات المفروضة عليها، وتعطيل سلاسل الاستيراد الروسية. لذلك من المحتمل أن تقوم الطائرات بدون طيار الإيرانية بدور رئيسي في الاستراتيجية العسكرية الروسية في المستقبل المنظور.

العامل الثاني: هو ما تراه إيران من مصلحة استراتيجية في قلب النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، وتعزيز نفوذها الجيوسياسي. فمن ناحية، تبدو الفوائد كبيرة من توريد طائراتها بدون طيار إلى روسيا. لقد بدأت إيران تطوِّر تقنيّة الطائرات بدون طيار للمرّة الأولى في الثمانينيّات من القرن الماضي خلال الحرب الإيرانية العراقية، وتابعت التصنيع المتقدّم لكلّ من مسيّرات المراقبة والهجوم، على الرغم من العقوبات الكبيرة المفروضة على برامجها العسكرية والصاروخية. ومع ذلك، لم تحقّق إيران سوى نجاح محدود في بيع أسلحتها إلى عدد قليل من الدول، مثل إثيوبيا والسودان وطاجيكستان وفنزويلا. لقد منح انتشار طائرات “شاهد” و”مهاجر” فرصة دعائية مهمّة، وحظي باهتمام كبير من زبائن محتملين في المستقبل، ولا سيّما من الدول الخاضعة للعقوبات والتي تواجه صعوبات في الحصول على هذه الأسلحة. والأهمّ من ذلك أنّ إيران ترى في انضمامها إلى الحرب في أوكرانيا فرصة لإلحاق الضرر بالمصالح الأميركية، واستنزاف أوكرانيا الحليف الأميركي الذي حقّق مكاسب غير متوقّعة في الأشهر الأخيرة.

لكن هل الفوائد تفوق الأضرار؟

إقرأ أيضاً: أوكرانيا… هل تدفع ألمانيا للتمرّد على الغرب؟

كانت غارة أصفهان رسالة واضحة تؤكّد عزم الولايات المتحدة وحلفائها، ولا سيّما إسرائيل، على التصدّي بقوّة للطموح الإيراني التقليدي والنووي على حدٍّ سواء، مع إهمال الدول الراعية للاتفاق النووي لمساعي تجديده في الوقت الراهن، وربّما إلى ما بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا. فالمشاركة الإيرانية في الحرب الروسية على بلد أوروبي هو أوكرانيا، فاقمت من تعقيد المسائل العالقة مع إيران. وربّما جعلتها تدفع الثمن مع روسيا، إذ ربطت مآلها بمآل المغامرة الروسية، نصراً أو هزيمة.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…