ثمة بقعة “عدم ثقة” تتوسّع داخل التحالف الغربي، الأميركي – الأوروبي، الذي يواجه روسيا ومحاولتها احتلال أوكرانيا. بقعة عدم ثقة بألمانيا، وبسياساتها الجديدة، والتوجّه لدى “دولتها العميقة” لتكون أقلّ اصطداماً بروسيا.
هذا جزء من متغيّرات عديدة على مستوى السياسة الدولية، وسياسات أميركا والإتحاد الأوروبي ومشتقاتهما، طرأت خلال الحرب الروسية على أوكرانيا وبعدها. لهذا تخطرنا الأحداث المقبلة بنشوء مناطق نفوذ جديدة وقواعد اشتباك مختلفة حتى بعد ما يُسمّى “استراتيجية استرداد النفوذ والمكانة” التي حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن ينفّذها. وهي إشكالية يبدو أنّ الغرب قرّر أن يواجهها لدرء خطرين:
ثمة بقعة “عدم ثقة” تتوسّع داخل التحالف الغربي، الأميركي – الأوروبي، الذي يواجه روسيا ومحاولتها احتلال أوكرانيا. بقعة عدم ثقة بألمانيا، وبسياساتها الجديدة، والتوجّه لدى “دولتها العميقة” لتكون أقلّ اصطداماً بروسيا
– الأوّل: هو عدم السماح لروسيا باحتلال أوكرانيا والسيطرة عليها، لمنع نشوب فوضى شاملة في الجغرافيا السياسية، قد تشجّع الصين على أن تحتلّ تايوان، وتشجّع غيرها على أن يعتدي على جيرانه في مناطق أخرى من العالم.
– الثاني: تحديد فترة هذه الحرب ومدّة استمرارها. فكلّما طالت زاد احتمال تكرار حادثة نوعية شبيهة مثلاً باستهداف بيرل هاربر، الذي أدّى إلى جنون أميركي دفع الأميركيين إلى استعمال السلاح النووي. فهل يُجنّ جنون بوتين ويقدم على أمر مشابه؟
في هذه الأثناء يطلق نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دمتري ميدفيديف تصريحاته النارية ضدّ الغرب وأميركا. فيهدّد ويحذّر من خطورة تسليم “الغرب” مدرّعات ودبّابات وآليّات عسكرية تكسر التوازن بين روسيا وأوكرانيا. وهو ما أدخل الاتحاد الأوروبي والحلفاء الأطلسيين في نزاع داخلي، وخاصة بين ألمانيا وأميركا، حول ملفات يبدو هذا أبرزها.
ارتياب الغرب من ألمانيا
لم تكن المشكلة في توريد الدبّابات الأوروبية والأميركية لأوكرانيا، بل في عدّة عوامل أساسية:
1- الثقة الهشّة بين أعضاء الناتو، والاختلاف الاستراتيجي بين النهجين الأميركي والأوروبي في قراءة المعركة.
2- التحوّل السياسي والاستراتيجي الجديد للاتحاد الأوروبي، وخاصة في ما يتعلّق بأمن الطاقة، وعلاقته بروسيا.
3- عدم الثقة الأوروبية والأميركية بالسياسة المشرقية الألمانية وعلاقتها المتردّدة مع روسيا التي يحكمها مبدأ السياسة المشرقية. ما شكّل عامل ارتياب ومدخلاً إلى نشوء هواجس عميقة فيما بين الحلفاء. الأمر الذي انعكس في كثير من المراحل جدلاً ونفوراً وامتعاضاً تجلّى أخيراً في الاستياء والغضب الأميركيَّين من رفض ألمانيا تسليم الدبّابات وفق اتفاق شامل على مدّ أوكرانيا برتل من الدبابات الأوروبية والأميركية، التي من شأنها أن تضفي متغيّرات جديدة على مسرح هذه الحرب.
أنهت ألمانيا فصلاً مهمّاً في سلوكها السياسي وعالجت خطر عزلها وانقسام أوروبا، وتفادت إلحاق الضرر البالغ بعلاقاتها مع الولايات المتحدة
لألمانيا خصوصية ووضعية مغايرتان في النزاع الدائر بسبب إرثها الثقيل على المسرح العالمي والأوروبي. خصوصاً تركة الحقبة النازية التي حملت ألمانيا الجديدة مسؤوليّتها وحتّمت عليها نهجاً سياسياً دمثاً مع روسيا.
لكن مع إعلان المستشار الألماني إرسال دبّابات الليوبارد والسماح لباقي الحلفاء من الدول الأوروبية التي لديها هذا النوع من الدبابات والأسلحة الألمانية بإرسالها إلى كييف، تكون قد وضعت ألمانيا نهايةً لدور الوسيط الذي تقوم به في الحرب الروسية – الأوكرانية، ورسمت حدّاً نهائياً لعلاقتها الخاصة مع موسكو، وأصبح لزاماً عليها تحويل تركيزها إلى العمق الأوروبي فقط والروح الأطلسية العقائدية والأمنية على المسرح الجيوسياسي الدولي.
التحذير الأميركي العتيق
أنهت ألمانيا فصلاً مهمّاً في سلوكها السياسي وعالجت خطر عزلها وانقسام أوروبا، وتفادت إلحاق الضرر البالغ بعلاقاتها مع الولايات المتحدة. فالسياسة المشرقية التي صاغها المستشار وزعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي فيلي برانت من أجل زيادة تقريب روسيا من أوروبا، وحتّى دمجها مع جزء من ألمانيا في القارّة الأوروبية، لم تنجح سياسياً ولا تجارياً ولم تؤدِّ إلى استقرار في موارد الطاقة. فعندما أبرم القادة الألمان اتفاقاً مع موسكو لتشييد وتمويل أوّل خطّ أنابيب للغاز في مطلع سبعينيات القرن الماضي كانوا بذلك يضعون أنفسهم تحت احتلال طاقوي واستراتيجي روسيّ. ولذلك حذّرتهم الولايات المتحدة من مخاطر هذا العقد الخاص بالطاقة. إذ كانت ترى أنّ العقد محاولة من جانب موسكو لإضعاف الارتباط مع واشنطن عبر الأطلسي، من خلال إقامة علاقة خاصة مع ما كان يُعرف آنذاك بـ”ألمانيا الغربية”. فيما كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي يحاجج بأنّ عقد الطاقة وسيلة لتحرير ألمانيا من بعض الهيمنة الجارفة لأميركا في أوروبا الغربية، وهذه هي نقطة الخلاف بين الحليفين اللدودين.
سيُحدث هذا الخلاف شرخاً كبيراً داخل الحزب الديمقراطي الاشتراكي وسيعرّض المستشار الألماني لضغوط ألمانية داخلية, إذ يعارض الفصيل اليساري إرسال المدرّعات والدبّابات، وحتى إنّه يقف ضدّ تقديم المساعدات لأوكرانيا. ولا يعود ذلك إلى أنّهم من أصحاب المشاعر والمناهج السلمية فقط، بل لأنّهم أصحاب رؤية مختلفة في ما يتّصل بالناتو والسياسة الأوروبية والعلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية.
بل وهناك ما هو أبعد. إذ يعتبر هؤلاء أن لا علاقة لألمانيا بهذه الحرب التي ستكون مسماراً في نعش العلاقة الخاصة مع روسيا. وهو ما يضع ألمانيا أمام امتحان تاريخي وصعب واختبار داخليّ أكثر مما هو خارجي.
يعتبر بوتين أنّ الحرب في أوكرانيا حرباً وجودية. ولا يعني ذلك أنّ أوكرانيا تهدّد وجود روسيا بأيّ شكل من الأشكال، وخاصة بعدما أصبحت أوكرانيا خالية من الأسلحة النووية منذ عام 1994. لكنّ غرور فائض القوّة الروسيّة كان هو الفخّ. إذ كانت الخطة الأوّلية التي وضعتها موسكو هي أن تغزو كييف بسرعة منتهجةً العقيدة الأميركية: “الصدمة والرعب”. والطريف أنّ هذه المحاولة لم تنجح مع أميركا أصلاً. واستهان بوتين بتماسك الأمّة الأوكرانية وفعّالية قوات هذا البلد. لكنّ جيشه بات عاجزاً عن التقدّم، فاختار تركيز عملياته في نقاط انتقائية وعلى ساحل البحر الأسود حيث يواجه مقاومة شديدة.
إقرأ أيضاً: مُفاوضات اليمن: 3 نقاطٍ على الطّاولة… وخطّان أحمران لإيران
فهل ألقت روسيا بنفسها في مأزق استراتيجي بشنّها حرباً على أوكرانيا في مواجهة توحّد أوروبي وتفاهم استراتيجي أطلسي؟ أم أنّ “الانشقاق” الألماني المحتمل، يمكن أن يغيّر وجه المعركة، ويحفظ للقيصر ماء وجهه في لحظة الجنوح إلى السلم.
فهل تتمرّد ألمانيا على الغرب، بعد 100 عام من الخضوع له؟