تشي الظروف السياسية والاقتصادية في العالم اليوم، وخصوصاً العسكرية – الاقتصادية القائمة بين روسيا والغرب، بأنّ سعر الذهب ربّما يرتفع إلى مستويات غير مسبوقة. ويشير خبراء إلى أنّ سعر الذهب قد يقفز من 1,800 دولار للأونصة إلى قرابة 3,600 دولار في الحدّ الأقصى، إذا ما اتّخذت روسيا قراراً بمبادلة النفط بالذهب بديلاً من العملات الورقية.
في هذه الحال سيُراكم لبنان فائضاً في قيمة الذهب الذي يكتنزه المصرف المركزي (286 طناً أو نحو 10 ملايين أونصة) سيبلغ الضعف. والذهب اللبناني الذي تناهز قيمته اليوم 18 مليار دولار (سعر الأونصة 1,800 دولار)، ومع ارتفاع سعر أونصة الذهب عالمياً بمعدّل تدريجي 100 دولار، الذي يعني زيادة قيمة الذهب في لبنان مليار دولار، قد تقفز قيمته البالغة 18 ملياراً إلى 36 مليار دولار عند مضاعفة السعر، وهو ما يُسيل لُعاب السلطة أكثر فأكثر ويجعلها تجرؤ على المسّ بذاك الذهب.
أكّد مجلس الذهب العالمي (WGC) أنّ مشتريات المعدن الأصفر كانت الأعلى على الإطلاق منذ 55 عاماً. وقدّر أنّه في عام 2022 اشترت المؤسّسات الماليّة الرسمية العالمية 673 طناً من الذهب
لكن قبل الحديث عن لبنان، فلنُجِب على هذه الأسئلة:
– كيف يحصل ذلك؟
– كيف سيرتفع الذهب إلى هذا الحدّ
– ولأيّ أسباب؟
– وما علاقة النفط بكلّ هذه القصّة؟
حرب أوكرانيا والعقوبات
يقول الخبراء إنّ روسيا منذ بداية حربها في أوكرانيا إلى نهاية العام الفائت اشترت 57 طناً من الذهب. وكشفت وسائل إعلام غربية وروسية مطلع هذا العام أنّ 5 من أكبر 13 مصرفاً روسيّاً اشترت 57 طناً من السبائك المادّية العام الماضي (وليس سندات أو إفتراضياً).
كذلك شجّعت روسيا مواطنيها على شراء الذهب خلال العام الماضي، نتيجة تعديلين على قانون الضرائب: ألغت ضريبة القيمة المضافة البالغة 20 في المئة على مشتريات المعادن في آذار الفائت، وضريبة الدخل البالغة 13 في المئة على بيع الذهب عن العامين 2022/2023.
وتوقّفت روسيا عن إصدار بيانات شهرية عن مشترياتها من الذهب، على الرغم من نشاطها المستمرّ في السوق، خصوصاً أنّ “المركزي الروسي” سبق أن أعلن أنّه سيجعل الذهب يصل إلى 25% من احتياطاته.
لم يقتصر الأمر على الروس. فالصين قادت موجة شراء لزيادة حجم ممتلكاتها من الذهب، وأفاد “بنك الشعب الصيني” أنّه خلال تشرين الثاني الماضي حقّق أول زيادة في حيازاته من الذهب منذ عام 2019، بعدما اشترى 32 طناً بقيمة 1.8 مليار دولار. فيما كان المشترون الرئيسيون في الربع الثالث كلّاً من تركيا وأوزبكستان وقطر.
أمّا مجلس الذهب العالمي (WGC) فأكّد أنّ مشتريات المعدن الأصفر كانت الأعلى على الإطلاق منذ 55 عاماً. وقدّر أنّه في عام 2022 اشترت المؤسّسات الماليّة الرسمية العالمية 673 طناً من الذهب.
ترمي هذه الخطوة إلى تنويع المدّخرات من المعادن الثمينة على حساب العملات الأجنبية مثل الدولار الأميركي واليورو نتيجة الحرب في أوكرانيا والتطوّرات في العالم وسياسة العقوبات التي ينتهجها الغرب، وزيادة منسوب “عدم اليقين” بشأن استقرار الأسواق المالية الأميركية ونظامها السياسي.
لكن وراء الأكمة ما وراؤها. فتجميد قرابة 300 مليار دولار من أصول روسيا، دفعت بأغلب دول العالم إلى التساؤل: هل يجب أن نراكم الدولارات؟ فيما الولايات المتحدة والحكومات الغربية قادرة على مصادرتها في أيّ وقت؟
لذا أصبحت الأولويّات هي البحث عن البدائل.
لأنّ “التسقيف” قد يسمح بانخفاض سعر النفط عالمياً، فإنّ قلب الطاولة من خلال ربط حاجة أميركا إلى النفط الرخيص بالذهب، قد يكون خياراً قائماً، وهذا ما يؤكّده عدد من الخبراء الغربيين
النفط الروسيّ يفجّر الأزمة
ثمّة معلومات رشحت عن وزير النفط الروسي، تفيد بأنّ ردّ بلاده على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نتيجة “تسقيف” سعر نفطها، (أي وضع سقف لسعر البرميل عند 60 دولاراً) سيكون بفرض حظر كامل على بيع النفط للدول التي أيّدت “التسقيف”، ومن بينها الدول الغربية التي تشتري الموادّ الخام الروسية عبر أطراف ثالثة (غالباً عبر الهند).
أحد المستشارين في مصرف “Credit Swiss” زولتان بوزار، رجّح أن تعتمد روسيا الذهب أو الروبل بدلاً من الدولار في بيع النفط الروسي، وذلك بمقايضة غرام ذهب ببرميلين من النفط لا برميل واحد.
– الخيار الأوّل قد يسمح للولايات المتحدة بإعادة منسوب احتياطاتها الاستراتيجية من النفط بأبخس الأثمان.
– الخيار الثاني سيكون ردّاً صاعقاً، تهدف منه روسيا أن تحفّز جميع الدول على شراء نفطها، خصوصاً مع انخفاض الاحتياطات الاستراتيجية في جميع دول العالم، وتأكيد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أنّها لن تعيد المخزون قبل انخفاض سعر البرميل إلى ما دون 75 دولاراً.
ولأنّ “التسقيف” قد يسمح بانخفاض سعر النفط عالمياً، فإنّ قلب الطاولة من خلال ربط حاجة أميركا إلى النفط الرخيص بالذهب، قد يكون خياراً قائماً، وهذا ما يؤكّده عدد من الخبراء الغربيين.
كان أوّل من تحدّث عن هذا السيناريو بوزار، الذي دعا العملاء إلى شراء الذهب، مرجّحاً ركون روسيا إلى هذا الخيار الذي سيرفع سعر أونصة الذهب من 1,800 دولار إلى قرابة 3,600 دولار.
من المعروف أنّ سعر غرام الذهب اليوم يتأرجح حول 60 دولاراً، وسعر برميل النفط الروسي الخاضع للعقوبات هو قرابة 60 دولاراً أيضاً. بهذه الطريقة تكون روسيا قد حفّزت المشترين على شراء نفطها مقابل الذهب بنصف السعر السائد (غرام الذهب مقابل برميلي نفط بدل برميل واحد).
نظام نقديّ عالميّ جديد؟
هذا الأمر سيرفع الطلب على النفط الروسيّ لأنّ المشترين يحصلون على ضعفَيْ الكميّة بالسعر نفسه لكن بوسائل جديدة هي الذهب، ويسمح أيضاً بإحداث عاصفة اقتصادية في العالم للأسباب التالية:
– ستزيد روسيا مخزونها من الذهب بشكل كبير جدّاً لأنّ مداخيلها من المعدن الأصفر سترتفع، وستحافظ على سقف مداخيلها وربّما تزيدها، وبالتالي ستستمرّ في حربها الأوكرانية.
– ستتسبّب بارتفاع سعر الذهب عالمياً وبشكل تدريجي، وذلك نتيجة الطلب عليه من جميع الدول الطامحة إلى دفع فاتورة استيراداتها من المحروقات بنحو النصف.
– ستخلق تدريجياً “عملة تبادلية” جديدة تشارك الدولار الأميركي في “البترودولار”. عملة مقبولة من الجميع وبعيدة عن القيود والعقوبات والتعاملات المصرفية التي تتحكّم بها الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.
– ستفتح الطريق أمام تراجع الدولار بوصفه “عملة عالمية وحيدة”، وهذا سيضعنا في أوّل الطريق نحو احتمال تغيير النظام العالمي الجديد، على ما تحلم روسيا والصين، وذلك بإضعاف هيمنة الدولار على النظام النقدي، أي يعيدنا إلى ما قبل اتفاقية “بريتين وودز 1944” التي سمحت لعملة الولايات المتحدة بالهيمنة تدريجياً على التجارة العالمية (تحدّث عن هذا الأمر بوزار في تحليل سابق بدايات العام الماضي)، خصوصاً بعد “صدمة نيكسون” التي تخلّى خلالها الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عن التحويل الدولي المباشر من الدولار الأميركي إلى الذهب. (حين بدأت أميركا تطبع دولارات دون وجود مقابل ذهبي لها).
إقرأ أيضاً: لا عودة للودائع قبل توزيعٍ عادلٍ للخسائر
لا تزال هذه السيناريوهات في إطار التكهّنات، لكن إن حصلت بالفعل فإنّ هذا الواقع المستجدّ قد ينقلب “إيجاباً” في لبنان إذا أحسنت سلطةٌ جديدةٌ أو عهدٌ جديدٌ التدبير والتصرّف من خلال الاستفادة من ذاك الفائض المُحتمل (ضعف).
أمّا إذا استمرّت السلطة الحالية وبالنهج نفسه، وإذا تحقّق سيناريو الذهب الروسي، فقد تلجأ السلطة في لبنان إلى بيع الذهب باعتباره ملاذاً أخيراً للاستمرار بلعبة “شراء الوقت” والتهرّب من الإصلاحات الضرورية لانتشال لبنان من القعر.