لا عودة للودائع قبل توزيعٍ عادلٍ للخسائر

مدة القراءة 8 د

يبدو أنّ السلطة السياسية، بكلّ مكوّناتها، استعادت بعضاً من رشدها، وبدأت بـ”النزول عن الشجرة” تدريجياً من خلال ما تظهر نقاشاتها داخل المجلس النيابي وخارجه من تصريحات “مستدركة” تتّصل بقانون “إعادة التوازن للنظام المالي”.

لقد بدأ بالانكفاء الجوّ الرافض لإشراك الدولة في الحلّ أو تحمّلها لمسؤوليّاتها، والذي ساد على مدى السنوات الثلاث الماضية، وانخفض منسوب “الشعبويّات” والكلام “من فوق السطوح” بعدما أخذ مداه، وبدأ الحديث الهادىء والموزون.

من هذا المنطلق، سيكون توزيع المسؤوليّات وفق نِسب محدّدة المدخلَ الطبيعي للبحث في أيّ حلّ لمسألة الودائع وفجوة الخسائر. ومن خلال جدول توزيع، وفق تصنيف يندرج من “الأكثر مسؤوليّة” وصولاً إلى “الأقلّ مسؤوليّة”، ومن “الأكثر استفادة” وصولاً إلى “الأقلّ استفادة”، يمكن البحث في “امتصاص الخسائر” وتحديد الجهات المسؤولة وما تتحمّله من نسب.

لكن سيكون مستحيلاً تحديد تلك النسب قبل تحديد المسؤوليّات والجهات المشاركة في الأزمة الاقتصادية والمعنيّة بها التي يمكن القول إنّها 5 جهات:

1- الدولة اللبنانية.

2- مصرف لبنان.

3- المصارف.

4- المودعون.

5- المواطنون.

كان سلوك الطبقة السياسية على مدى 3 عقود يغطّي سياسة تثبيت سعر الصرف، ويضغط في المقابل على مصرف لبنان من أجل الاستدانة من المصارف

هؤلاء الأطراف الـ5 هم اللاعبون الرئيسيون من بين الذين إمّا تسبّبوا بالأزمة أو شاركوا عن قصد أو غير قصد في إنتاج الأزمة، أو حتى استفادوا من الأزمة. ولكلّ طرف من تلك الأطراف مسؤولية مختلفة في الشكل والمضمون.

 

– في المسؤوليّة السياسيّة: الدولة 30% (السلطات المتعاقبة) ومصرف لبنان 30%

كان سلوك الطبقة السياسية على مدى 3 عقود يغطّي سياسة تثبيت سعر الصرف، ويضغط في المقابل على مصرف لبنان من أجل الاستدانة من المصارف. لم تضع السلطات المتعاقبة السياسات اللازمة من أجل النهوض بالاقتصاد أو لتغيير هويّته. كانت تواظب على الهدر والفساد ونفخ القطاع العامّ لأغراض سياسية ومن أجل الحفاظ على الزعامات الطائفية.

كان الفساد والهدر ينخران القطاع العامّ، فيما أموال المودعين تُستخدم لتغذية تلك السياسات بلا ضوابط. وهذا يحمّلها مسؤولية تتقاسمها مع مصرف لبنان بالتساوي، بخلاف ما كانت “خطة التعافي” تحاول الإيحاء به وتمريره.

من جهته، تخلّى مصرف لبنان عن استقلاليّته وحصاناته التي يمنحه إيّاها القانون، وتحوّل مع تعاقب السنوات إلى “وسيط مُسهِّل” لهذه الكارثة، ومهّد الطريق أمام السلطة للاستمرار بهذا النهج، فتحوّل “المركزي” عبر حاكمه رياض سلامة، القابض على الحاكمية على مدى 30 سنة وأكثر، إلى “منفذّ” للطبقة السياسية. كان سلامة يهندس الفساد ماليّاً ويمنح الفوائد المرتفعة لقاء حصوله على الأموال وتسليفها للحكومات المتعاقبة. أرهقت هذه السياسة الاقتصاد الوطني، وجعلت قدرات المصارف المالية كلّها في خدمة السلطة.

أمّا الهيئات الرقابية على المصارف، الممسوكة من مصرف لبنان وحاكمه، فكانت الغائب الأكبر على مدى تلك السنوات. لم تتحرّك يوماً. ولم تدقّ ناقوس الخطر أو تعلن أنّ سياسة الاستدانة هذه ستؤدّي إلى انهيار القطاع بسبب المخاطر المرتفعة الناتجة عن استثمار المصارف لدى مصرف لبنان وفي سندات الخزينة الصادرة عن الدولة البنانية.

وعليه، تؤول المسؤولية إلى السلطة ومصرف لبنان (وتوابعه) بالتساوي، وبنسبة 60% من الأزمة. وهذه لن تكون “قسمة ضيزى” على الإطلاق.

التوزيع المنطقي للخسائر فيكون بالتساوي بين الأطراف الثلاثة بنسبة 30%: الدولة، مصرف لبنان، والمصارف، فيما يتحمّل المودعون الـ10% الباقية

– في المسؤوليّة القانونيّة: المصارف 30%

في الحديث عن المصارف، يمكن القول بدايةً إنّه لا يمكن أخذ جميعها “بالجملة”، وإنّما لا بدّ من تمييز تلك الكبرى التي فرضت نمط استفادتها من استدانة الدولة نتيجة قرب أصحابها من السلطة والحكومات المتعاقبة. استطاعت المصارف الكبرى (غالباً المصارف المصنّفة “ألفا ـ alfa” وتلك التي تحوّلت وصنفت أيضاً “ألفا” بعد انتفاخها) أن تفرض نمطاً محدّداً من السلوك. وعلى الرغم من اعتراضها في مرحلة من المراحل على الاستمرار بتسليف الدولة الأموال، إلّا أنّها لاحقاً، ونتيجة الترغيب كثيراً والترهيب قليلاً، عادت إلى لعبة تسليف الدولة، فاضطُرّت المصارف الصغيرة والمتوسطة إلى السير خلفها، تحت ضغوط خسارة المودعين لمصلحة الحيتان الكبرى بفعل الفوائد المرتفعة، فأدّى ذلك إلى غرق جميع القطاع المصرفي، وسَوْق جميع المصارف بـ”عصا واحدة”.

لعبت السلطة بطاقة “تثبيت سعر الصرف” بدافع حاجتها إلى دولارات. ولجلب تلك الدولارات كانت المصارف تغري المودعين وتجذبهم عبر سياسة رفع الفوائد… وهكذا دواليك.

هذا النهج الذي ارتضت المصارف السير به لم يعفِها من المسؤولية. ولذلك عندما حاولت السلطة تحميلها كامل تلك المسؤولية من خلال “خطة التعافي”، فإنّها بالتأكيد ستوافق على إعفائها من جزء من المسؤولية الكاملة، وقد ترتضي تحمّل 30% من حجم الأزمة. وهي نسبة عادلة، على الرغم من رفضها لها، ومطالبة بعض الأصوات المناهضة للمصارف بالمزيد.

الأزمة لم تكن وليدة الصدفة، وأنّها لم تأتِ من سرابٍ أو بَغتَةَ. كانت نتاج مسار طويل أخذ بالتفاقم والانفلاش أمام أعيننا

– في المسؤوليّة الأخلاقيّة: المودعون 10%

على مدى سنوات، غرق المودعون بشعارات رنّانة من صنف “القطاع المصرفي اللبناني أكبر من أن ينهار” Too Big to fail. انخرطوا في لعبة تكديس الودائع في المصارف اللبنانية طمعاً بالربح، متجاهلين المخاطر الناتجة عن الفوائد المرتفعة، خصوصاً الكبار منهم الموجودين خارج البلاد، الذين طمعوا بالفوائد المرتفعة مع علمهم بأنّ “الزيادة في الفوائد هي زيادة في المخاطر”، وهم من الذين يعرفون حقّ المعرفة أنّ معدّلات الفوائد في الخارج تكاد تكون “صفريّة” حتى في أكثر الدول تقدّماً في الاقتصاد والمجالات المصرفية، لكنّهم مع ذلك وافقوا على المغامرة.

لم يأخذ هؤلاء في الحسبان مسألة المخاطر واستمرّوا في ضخّ الودائع في المصارف اللبنانية حتى تخطّى حجمها حجم الاقتصاد الوطني بنحو 3 أضعاف (بلغ حجم الودائع قبل الأزمة قرابة 160 مليار دولار، في وقت كان حجم الاقتصاد الوطني نحو 54 مليار دولار).

أمّا متوسّطو المودعين وصغارهم فكانوا من بين المستفيدين من ذلك الواقع. إذ استفادوا من سعر صرف مضبوط و”مشوّه” لا يعكس قيمته الفعلية. واستفادوا على مدى نحو عقدين من تقديمات المصارف لشراء السيارات والأجهزة الإلكترونية بالتقسيط، وللحصول على القروض الشخصية. واستفادوا أيضاً من سعر الصرف عبر دولرة مئات ملايين الليرات على سعر الصرف الرسمي 1,500 ليرة، لكي ينفقوها في تمويل رحلاتهم السياحية إلى تركيا وشرم الشيخ ودبي وأوروبا، واستفادوا من الطفرة العقارية لتقسيط المنازل واقتناء أحدث الهواتف الذكية.

قد يقول قائلٌ: وما علاقتنا نحن المواطنين في هذا كلّه؟ ليس من وظيفتنا الدخول في هذه التفاصيل ولا حتى من اختصاصنا. فهل نحن من يضع قوانين الانتخابات ويهندس التحالفات؟ نحن نرفض كلّ الطبقة السياسية ولم يكن بيدنا أيّ حيلة لتغييرها!

هذا صحيح في المبدأ، وهذا قد يشفع لنا نحن المواطنين أو المودعين المتوسطين والصغار، لكن لا يعفينا من المسؤولية نهائياً، ولذلك قد لا يتعدّى قسطنا من ذاك “القصاص” نسبة الـ10% من باب تحمّل المسؤوليّات ومبدأ المساواة. وها نحن ندفع قسطنا من خلال حصولنا على ودائعنا بأقلّ من قيمتها، مع كثير من “البهدلة” على أبواب المصارف.

 

في المسؤوليّة الوطنيّة (غير القابلة للصرف): المواطنون 50%… وأكثر

في المقابل، فلنتذكّر أنّ الأزمة لم تكن وليدة الصدفة، وأنّها لم تأتِ من سرابٍ أو بَغتَةَ. كانت نتاج مسار طويل أخذ بالتفاقم والانفلاش أمام أعيننا. كثير من الخبراء الاقتصاديين والماليين حاولوا تنبيهنا قبل تنبيه السلطة السياسية من هذا النهج المدمّر… لكنّ الدعاية كانت أقوى منّا جميعاً بلا شكّ!

خطيئتنا نحن المواطنين ومسؤوليّتنا المعنوية تكمنان في سلوكنا السياسي، إذ لا يخفى على أحد أنّنا كنّا عند كلّ استحقاق نمنَحَ الثقة للطبقة السياسية نفسها التي أسرفت في تبديد أموالنا المودَعة في المصارف. كنّا نجدّد البيعة لتلك الطبقة تحت مسمّيات وأسباب وعناوين متنوّعة حتى وقع المحظور وغرقنا جميعاً من دون استثناء.

إقرأ أيضاً: منصّة “صيرفة”: “ثقب أسود” مع خدمة Delivery

يقودنا كلّ هذا إلى الاعتراف بأنّ المسؤولية المعنوية نتحمّلها نحن المواطنين، وبنسبة كبيرة قد تفوق الـ50%. لكنّ تلك المسؤولية لا أثمان لها ندفعها الآن ومباشرة. لكن سندفعها “بالتقسيط” تماماً كالقروض التي حصلنا عليها من المصارف. سندفعها من قدرتنا الشرائية ورفاهنا، ومن مستقبل أولادنا ومستقبل الأجيال المقبلة… علّها تكون درساً لنا كي لا ننسى!

أمّا التوزيع المنطقي للخسائر فيكون بالتساوي بين الأطراف الثلاثة بنسبة 30%: الدولة، مصرف لبنان، والمصارف، فيما يتحمّل المودعون الـ10% الباقية.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…