أعجبتني كلمة البطريرك الراعي يوم الأحد الماضي. كانت جامعةً مانعةً كما يُقال. لكن في الواقع كأنّما الكلام في وادٍ. فلا أحد من السياسيين يسمع الكلام العاقل. وإذا سمعوا لا يتحرّكون لانتخاب رئيس. الحركات كلّها لإرضاء جبران باسيل أو إقناعه بانتخاب سليمان فرنجية مقابل المنّ والسلوى. باسيل يمون على 16 نائباً مسيحياً، وحزب الله يمون على عشرة مسيحيين وعشرة سُنّة ونوّاب جنبلاط و27 نائباً شيعيّاً، والمولى يزيد ويبارك.
أهمية باسيل ليست في عدد نوابه، بل في أنّه أقوى الفرقاء المسيحيين الذين يتحالفون مع الحزب منذ عام 2006. وأمّا الفريق الآخر سمير جعجع فلن يصوّت لفرنجية مهما كانت الظروف.
لندع تلك المماحكات ولنعد إلى خطبة أو خطاب البطريرك. بعد كلّ الانسدادات والإدانات للطبقة السياسية يريد البطريرك المضيّ باتجاه الحلّ الدولي
فرنجيّة: وعد السيّد المنزَل
في عام 2004 كان رفيق الحريري، رحمه الله، يحاول إقناع السوريين بأنّ أيّ رئيسٍ سيأتي سيكون موالياً لسوريا، فلا داعي للإصرار على إميل لحّود “العظيم”. لكنّ جماعة بشار الأسد في سوريا ولبنان كانوا قد اتّفقوا على لحّود، فماذا يفيد الإنذار والتحذير اللذان تلقّاهما بشّار الأسد من أميركا وفرنسا؟ وكما هو معروف فإنّ القرار رقم 1559 الذي أخرج الجيش السوري من لبنان، بعد مقتل الرئيس الحريري، هجمت به الدولتان الكبريان بعد التمديد للحّود بأيامٍ قليلة. ليس هناك إنذار مشابه على الساحة هذه الأيام. لكنّ كلّ شيء معطّل بانتظار الرئيس المنتخَب والحكومة المتشكّلة بعد انتخابه. ولا أحد يعرف حقيقةً لماذا لا يريد باسيلُ فرنجيّةَ ولا حتى قائد الجيش. وهو عندما يضطرّ سيرشّح شخصيّات لا يمكن أن تفوز، وأقلّ قوّةً بكثير من ميشال معوّض مرشّح جعجع.
وإذا تجاوزنا باسيل وحركاته ومضينا باتجاه الحزب المسلَّح: لماذا هذا الإصرار على سليمان فرنجية؟ يقول العارفون: لأنّ “السيّد”، أي زعيم حزب السلاح، وعد فرنجية بالرئاسة لأنّه تنحّى من وجه عون الكبير في السنّ الذي أجمع عليه المسيحيون وانضمّ إليهم سعد الحريري. طيّب يا ناس، “السيّد” يريد الوفاء بوعده، وهذا حقّه.. إنّما ما شأن اللبنانيين بذلك؟ إذ يبدو أنّ معظم اللبنانيين يريدون الخلاص من الطبقة السياسية التي خرّبت كلّ شيء وفرنجية منها، ويعرفون أنّ فرنجية، وهو لا يُخفي ذلك، ملتزم خطّ الحزب وسلاحه، وخطّ بشّار الأسد وسلاحه أيضاً. وهو عند المسلمين، أو في نظرهم، أقلّ شروراً من عون وباسيل، إنّما لماذا يكون على اللبنانيين السعي في كلّ مرّةٍ إلى الإتيان بمن هو أقلّ شرّاً، وليس أحد الرجال الأفاضل؟! وقد ثبت أنّهم بمجيئهم بعون أوصلوا للرئاسة الأكثر شرّاً وقبحاً.
هل من سياسيّ غير فاسد؟!
هناك هذا النداء المتصاعد من الجنبات من أجل التوافق. لكنّ مرشّح التوافق ليس من أولويّات الحزب المسلّح، ولا من أولويّة معارضيه. والرئيس نبيه برّي يدعو الجميع إلى الحوار من أجل التوافق. وقد يكون الرجل مخطئاً، لكنّه يستحقُّ التجربة. فما دام الأفق مسدوداً فالمحاولة تستحقّ.
لكنّ هناك أمراً آخر: التغييريون (وهم يقلّون يوماً بعد يوم!) يريدون تغييراً جذرياً، وأعدادهم لا تسمح حتى بترشيح أحد، لكنّهم يُكثرون الضجيج. فلندع هذا وذاك، ولنذهب بالحوار باتجاه شخصية محترمة ونزيهة لم توغِل في الفساد. إنّ الذين يتعاطون السياسة من هؤلاء قلّة قليلة. فمَن كان يعتقد أنّ حاكم المصرف المركزي بهذا الفساد؟!
لكن بالطبع هناك أُناسٌ غيره لا شكّ في احترامهم ونزاهتهم. لو فرضنا (وهذا بعيد) أنّ المتحاورين اتّفقوا على واحد أو اثنين من هؤلاء، فهل يستطيع الرئيس برّي الحصول على موافقة الحزب؟
هي فرضيّاتٌ دونها أمران:
– الأوّل أنّ كلّ الفرقاء المسيحيين، وفي طليعتهم جعجع وباسيل، لم يوافقوا على المشاركة في الحوار. وهذا عجيب.
– الثاني هو استبعاد الاتفاق على شخصيّةٍ أو شخصيّتين، لأنّ أحد الأطراف سيعتبر أنّ الطرف الآخر انتصر عليه.
لندع تلك المماحكات ولنعد إلى خطبة أو خطاب البطريرك. بعد كلّ الانسدادات والإدانات للطبقة السياسية يريد البطريرك المضيّ باتجاه الحلّ الدولي. ولا شكّ أنّه يتذكّر، وإن لم يذكر، الطائف واتفاقيّاته بالمملكة العربية السعودية، وقد كان مؤيَّداً دوليّاً وعربيّاً.
الجوّ العربي غير ملبّد لهذه الناحية، إنّما ليست كذلك الأجواء الدولية. فالحرب الروسية – الأوكرانية دمّرت كلّ التقاربات، وضربت الاقتصاد العالمي بعد كورونا في الصميم
لنجرّب الجامعة العربيّة
سمعتُ فكرة من الأمين العام للجامعة العربية عن إرادة مساعدة لبنان بأيّ شكل. فلماذا لا تبدأ الجامعة اتصالاتها لاستكشاف التوجّهات الممكنة أو الواعدة؟
الجوّ العربي غير ملبّد لهذه الناحية، إنّما ليست كذلك الأجواء الدولية. فالحرب الروسية – الأوكرانية دمّرت كلّ التقاربات، وضربت الاقتصاد العالمي بعد كورونا في الصميم. لكن كما في الحوار ومحاولته، لا بدّ من الإقدام الدولي، وربّما يستطيع الفاتيكان مساعدتنا بهذا الاتجاه نصف العربي ونصف الدولي. فهناك عجائب تحصل الآن على الرغم من الأجواء الدولية الملبّدة: الاتفاق في السودان، وعرض الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الانسحاب الكامل من سورية، وتفاوض إردوغان مع روسيا، فيما الأميركيون لا يعترضون.
قال السيّد المسيح لمارتا: “مارتا مارتا، تسألين عن أشياء كثيرة والمطلوب واحد”.
المطلوب هو الاتفاق على رئيس ليس مثل لحّود ولا مثل ميشال عون. فهل نعجز عن ذلك؟
إقرأ أيضاً: من يملك شجاعة القبول؟
يبدو أنّنا عاجزون حتى الآن. لكنّ الأمين العام للجامعة العربية ليس يائساً، فلنجرّبه ولن نخسر شيئاً. فعندما يتحرّك تتتابع الحركات بالداخل باتجاه التوافق، فليس هناك خسرانٌ في الوقت. إنّما من الذي يعلّق الجرس؟ من الذي يكلّف الأمين العام للجامعة؟
كلّ اقتراحٍ يظهر له اقتراحٌ معارض أو بديل لأنّ اللبنانيين مغرمون بالاختلاف وليس بالاتفاق. ولا حول ولا قوّة إلا بالله.