لا يحبّ الناس تعبير “شجاعة القبول” لأنّ هذا التعبير منسوب إلى الماريشال فيليب بيتان بطل فرنسا في الحرب العالمية الأولى، الذي كانت لديه “شجاعة” قبول الاحتلال الألماني لفرنسا في الحرب الثانية، وأنشأ جمهورية فيشي في ظلّ هذا الاحتلال. بالطبع، الجنرال شارل ديغول هو الذي كانت عنده “شجاعة رفض” الاحتلال على الرغم من ضآلة الإمكانيات التي كانت بحوزته عندما بدأ “مقاومته” عام 1942. أراد بيتان تجنّب التدمير الكامل لفرنسا، وديغول اعتبر الخضوع للاحتلال هو الدمار بعينه. أشاد هنري كيسنجر في كتابه الأخير “القادة” بالجنرال ديغول وقياديّته في مناسبتين: التمرّد على الألمان، وشجاعة الخروج من الجزائر التي كانت فرنسا تستعمرها منذ عام 1831. ولو استخدمنا المقياس ذاته لوجدنا أنّ ديغول هو أيضاً غامر بإحداث انقسام في الجيش الفرنسي في سبيل قبول الانسحاب من الجزائر. ليس الموقف فقط هو الذي يحكم إذن، بل والحكمة والمصلحة في المآلات أيضاً. فالاستعمار أمرٌ بغيضٌ ومدمِّرٌ ليس للمستعمَر فقط، بل وللمستعمِر أيضاً.
لماذا كلّ هذه الحذلقة؟ لأنّ الحزب المسلَّح السائد في لبنان يأبى التفكير في البدائل مهما كان نوعها إذا كانت تتخطّى مرشّحه المعروف سليمان فرنجية.
لا يحبّ الناس تعبير “شجاعة القبول” لأنّ هذا التعبير منسوب إلى الماريشال فيليب بيتان بطل فرنسا في الحرب العالمية الأولى، الذي كانت لديه “شجاعة” قبول الاحتلال الألماني لفرنسا في الحرب الثانية، وأنشأ جمهورية فيشي في ظلّ هذا الاحتلال
في الظاهر عندما دعا الرئيس نبيه برّي إلى الحوار، فقد كان ينسّق مع حزب السلاح. ولذلك ما رضي العونيون ولا الجعجعيّون بالمشاركة في هذه “الحيلة” لأنّ مآلاتها سليمان فرنجية. وإذا كان الباب مسدوداً على هذه المحاولة فإنّ الطرفين، لكي لا يكون الحوار حيلة، مطلوبٌ منهما التنازل أو شجاعة القبول أو يستمرّ العبث إلى أمدٍ غير مقبول وغير معقول. إنّما ألا يُحتمل أنّ برّي كان يسعى بالفعل إلى التوافق على حلٍّ ثالث أو خيار ثالث غير الفراغ؟!
المثال السوري… و”الحلّ الوسط”
عندما هبّت روسيا عام 2015 لمساعدة بشار الأسد، استخدمت سلاح “الأرض المحروقة” التي نفعت بشّار الأسد وأضرّت بالطبع بالمعارضة. لكنّ الوضع انتهى إلى جمود، على الرغم من الجهات الكثيرة التي تدخّلت لترجيح الكفّة وما خرجت من الحرب في سورية حتى بعد انكسار “القاعدة” و”داعش”، وصمود النظام في الجهات المعيّنة والمعروفة، واحتماء المعارضين بالقوات التركية.
القرار الدولي رقم 2254 بشأن الحلّ السياسي في سورية ما سار فيه النظام ولا الروس ولا الإيرانيون لأنّه يعني خروج بشار الأسد ولو بالتدريج. لكنّ الجميع الآن يدرك فضيلة التقارب بسبب عبثيّة النزاع المطلق. وأوّل من أدرك ذلك واعترف به الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وهو قال: إمّا متابعة الغزو التركي للمزيد من إبعاد الأكراد عن الحدود أو الحديث مع بشار الأسد لكي تتسلّم السلطة الأسديّة المنطقة الحدودية من الأكراد والأتراك، ويعود اللاجئون السوريون في تركيا إلى ديارهم.
هل هذا هو الحلّ الوسط أو “شجاعة القبول”؟
الخيار الأوّل (متابعة الغزو) ما رضيه الأميركيون ولا الروس. والحديث مع بشار الأسد ما رضيه الروس والأسد. فالتقارب الآن تحول دونه الحرب الأوكرانية والنزاع المتصاعد بين الأميركيين والروس، وكلاهما لا يريد التخلّي عن الأكراد الآن قبل الصفقة الشاملة. فشجاعة القبول إذن (وهذه المرّة ببشّار الأسد من جانب ألدّ خصومه) ما كانت كافية لأنّها ظلّت من طرفٍ واحد، وما تلقّتها الأطراف الأخرى، وهي عديدة، بالقبول أو التفاوض على الأقلّ.
عندما دعا الرئيس نبيه برّي إلى الحوار، فقد كان ينسّق مع حزب السلاح. ولذلك ما رضي العونيون ولا الجعجعيّون بالمشاركة في هذه “الحيلة” لأنّ مآلاتها سليمان فرنجية
لبنان: العدالة والسلام
لنفتح أفقاً آخر نُطلُّ منه على لبنان من جديد. في المبادئ الإنسانية وميثاق الأمم المتحدة يقترن السلام بالعدالة. إنّما في الحقيقة لم يكن ممكناً تحقيق المبدأين أو الهدفين معاً قطّ. ومن دون أن يعترف أحدٌ بذلك فقد كان يُصار دائماً إلى التفاوض على وقف إطلاق النار ووقوف الطرفين على سلاحهما من دون محاولات للتقدّم، ثمّ بعد ترتيبات وقف النار يبدأ الحديث عن “العدالة” بانسحاب الطرف المعتدي جزئياً أو كلّيّاً ويستغرق ذلك سنوات أو عقوداً على نحو ما يحصل في القضية الفلسطينية أو ما حدث في النزاع بين مصر وإسرائيل.
ما معنى الإصرار على العدالة؟
معناه استمرار الحرب إلى ما لا نهاية. إنّما كيف سيتقبّل المُعتدَى عليه هذه المسألة في حالة أوكرانيا مثلاً؟
منذ عام 2014 أخذ الروس شبه جزيرة القرم، والآن أخذوا بالحرب مقاطعتين كبيرتين أو معظمهما، وبدأوا في الأيام الأخيرة بسياسة الأرض المحروقة كما في سورية من قبل، وذلك كلّه لإرغام أوكرانيا والقوى الغربية المساندة لها على القبول بالتفاوض دونما شروط مسبقة مثل الانسحاب الجزئي أو وقف النار من الطرف الروسي.
في حالة لبنان تقتضي “العدالة” الذهاب باتجاه التغيير والتخلّي عن المرشّح أو المرشّحين المفروضين والذهاب إلى الانتخاب بنيّةٍ حسنة. كان الحزب المسلّح والعونيون يلجأون إلى الفيتو، والآن تلجأ المعارضة التغييرية إلى الفيتو، شأن كلّ أقليّة. في عام 2016 وبعد تعطيل بالفيتو لعامين ونصف صار عون بالإرغام مرشّح “إجماع” بعد ذهاب سمير جعجع وسعد الحريري باتّجاه “شجاعة القول”. وهي شجاعةٌ لم تُكافأ بدليل السلوك الثأري الدائم لعون وللحزب المسلّح منذ عام 2016 حتى اليوم، حيث يُراد تكرار التجربة بعدما صار أهل الفيتو أكثريّةً نسبيةً ما كانوها قبل عام 2018.
إقرأ أيضاً: لبنان 2022… لامبالاة عربيّة ودوليّة
“شجاعة القبول”، هكذا يمكن التفكير هذه المرّة، تفترض، لأنّه حلّ سياسي وليس نزاعاً عسكرياً لحسن الحظّ، أن لا يُعتبر أحد الطرفين مهزوماً، وهو الأمر الذي لم تتوافر شروطه حتى الآن على الرغم من التكتيكات اللطيفة للثنائي الشيعي هذه المرّة، والمحاولة الظاهرة لتدوير الزوايا بالمصطلح السحري: الحوار.
لا سلام معتبراً بلا عدالة، لكن أيضاً لا عدالة بدون سلام ووقف لإطلاق النار، سواء سياسياً كان ذلك أم عسكرياً. وهذه “حزّورة” ما استطاع أحدٌ حلّ عُقدها حتى اليوم.