رحيل حاتم العلي: “سورنة” الموت

مدة القراءة 5 د

لم يكن المخرج السّوري حاتم العلي يصنع على مدار رحلته الطّويله الّتي تنقل فيها بين عوالم كتابة القصة القصيرة والتّمثيل والإخراج سوى نوع من الأساطير الشّخصية، ويدعو الجمهور إلى المشاركة فيها انطلاقاً من هذا البعد.

كان يراكم ضمن هذا المجال ويسعى إلى توسيعه ومدّه بالعناصر الجمالية والنّظرية التي تتيح له الكمال. ففي كلّ أعماله كان هاجس إعادة كتابة الأساطير يسيطر عليه، لأنّه كان يريد لها أن تستبدل التّاريخ الذي لم يعد ممكناً والمكان الذي تبدّد.

الشّخصيات والمراحل التي عمل على إعادة تكوينها وتشريحها درامياً في عدد كبير من أعماله، من قبيل “صلاح الدين الأيوبي”، و”الزير سالم”، و”عُمَر” و”ربيع قرطبة”، لم تكن مجرد استعادات لمراحل أو لشخصيّات ومحاولة إسقاطها على الواقع.

 كانت عملية إعادة بناء سجاليّة تدفع بالوقائع إلى حدود الأسطرة، لا تأخذ من التاريخ بنية الوثيقة وتستخدمها لهجاء الحاضر، أو إقامة مقارنة ما معه والبحث عن الدّروس والعبر، بل كانت تتّخذ طابع النّسف والتّدمير.

كان شغله أشبه بمحاولة تّأسيس للنجاة من فخ تبدّد الوجود السّوري، الذي تحاصره المجازر المطلقة الأهداف والروح، وذلك باللجوء إلى الأسطرة المفتوحة للزمن وربطه بمجال دلاليّ سوري

ثورته التي لم تنجز في هذه الميادين كانت قابلة للإنجاز على الشّاشة، لأنه ربّما يكون قد وعى مبكّرا أن ما يجري في الميدان السّوري وغيره من الميادين العربيّة ليس مجرد مجزرة تطال الحاضر، ولكنها تهدف إلى استئصال كل الزّمن والذّاكرة، وتفكيك أي أمل في المستقبل.

من هنا كان شغله أشبه بمحاولة تّأسيس للنجاة من فخ تبدّد الوجود السّوري، الذي تحاصره المجازر المطلقة الأهداف والروح، وذلك باللجوء إلى الأسطرة المفتوحة للزمن وربطه بمجال دلاليّ سوري.

يمكن البحث عن المفاتيح  المرتبطة بالعنوان السوري في كل أعماله، سواء تلك الّتي تشير إلى ذلك مباشرة أوبشكل رمزي.

المخرج المولود في الجولان المحتل كان يستطيع أن يكون سورياً بقدر ما يمكنه السّكن في الحالة الفلسطينية، لكنّه لم يحاول تركيب هويّات مختلفة والتّنقل بينها وتوظيفها في إطار اكتساب شرعيات والبحث عن المواقف واستثمارها، بل انطلق دائما من البعد السّوري، ودفعه الى واجهة الحدث بوصفه قادراَ على اختصار كل المآسي القائمة والنطق باسمها.

في المشهد الأخير من مسلسل “التّغريبة الفلسطينيّة”، الذي أخرجه وشارك فيه كذلك كممثل.  يقرّر رشدي، وهو الشّخصية التي يقدّمها حاتم العلي، وعلى وقع نشيد “أيّها العابرون بين الكلمات العابرة” من كلمات محمود درويش وغناء أصالة، نبش بندقية والده الشهيد المدفونة في كهف مهجور ومعاودة السّير في درب النضال.

تتجلّى في هذا المشهد كل خصائص التّفكير الفنيّ لحاتم العلي بشكل مكثّف. يصوّر المكان بلقطات واسعة للإشارة إلى مفهوم الرّحابة، بينما يصوّرالأشخاص بلقطات مقرّبة. رحلة البطل رشدي إلى الكهف تظهر وكأنّها توكيد على أصالة المكان وقدسيّته.

تلاحق الكاميرا حركته كاشفة عن تفاصيل عديدة متلاحقة يجمعها قاسم مشترك هو المدى المفتوح. حين يقف على باب كهف يبدو مغموراً بالضّوء. كما  لو أنّ هذا الضّوء ليس سوى ضوء القرار والبدايات الجديدة والأمل.

تتنقّل الكاميرا بلقطات سريعة خلال عملية نبش الأحجار بين وجه الممثل والأحجار، قبل أن يتمّ الكشف عن الكنز المخبّأ وهو البندقيّة، بما تعنيه من رغبة في امتلاك القدرة على تحديد المصير، والقبض على التّاريخ والاتصال بالمستقبل من خلال السلاح والقوّة والمواجهة.

المخرج الذي طردته نقابة الفنانين السّوريين من عضويتها عام 2015 تحت عنوان “عدم تسديد اشتراكات النقابة”، توفّي بسكتة قلبيّة في منفاه المصري وهو لم يتجاوز الـ58 من العمر، بشكل وصفه الجميع بأنّه غير متوقّع وصادم

يلاحظ أيّ متابع لأعمال العلي التي تحمل سمات تاريخيّة ذلك الحرص الدّائم على توسيع حدود المكان وتلوينه وفتح حدوده، وكأنّه كان يريد القول على الدّوام إنّ سوريا الممتنَعَة والممنوعة من الحريّة، والمخنوقة والمسوّرة بالاحتلال الأسديّ، إنّما تتفجر وتنجز مشروع حرّيّتها في المدى الرّمزيّ للمكان المفتوح الذي كان يتبنّاه، ليس كمجرد خيار إخراجيّ، بل كشكل خاصّ من أشكال الإيمان.

ينتج عن ذلك قابلية كل الأمكنة العربيّة لأن تعكس بعضها. تصوير بيروت على أنّها دمشق في مسلسل “قلم حمرة”، أي تصوير المشاهد في بيروت، رغم أنّ المسلسل يجري أحداثه في سوريا، يعطي شرعيّة للتّعامل العمومي مع “المكان العربيّ”، الّذي يحيا مأساة سورية وملامح التغريبة السورية، وحيث يمكن لبيروت أن تكون دمشق دون أن ينتبه أحد.

في رحيله المفاجّئ والمؤلم أرّخ العلي لما يمكن أن نسميه بـ”سورنة الموت.
قال إنّه لا يمكن للسوري بعد الآن أن يموت إلا قتلاً، وذلك بغضّ النّظر عن الطّريقة التي يموت من خلالها فعلاً.

المخرج الذي طردته نقابة الفنانين السّوريين من عضويتها عام 2015 تحت عنوان “عدم تسديد اشتراكات النقابة”، توفّي بسكتة قلبيّة في منفاه المصري وهو لم يتجاوز الـ58 من العمر، بشكل وصفه الجميع بأنّه غير متوقّع وصادم.

لم يكن جاهزاً للموت أو آيلاً له. هذا ما شاء محبّوه التّعبير عنه أمام لحظة رحيله التي أفرزت على مواقع التّواصل الاجتماعي وفي الصّحف نوعًا من الحزن السّوري الخالص، يمكن من خلاله التأكيد على أنّ العلي رسم ملامح واضحة للموت السوري.

أن تكون سورياً الآن فهذا يعني أنّ موتك لا يمكن أن يكون عاديًا وأنّك لا تستطيع إنجاز مثل هذا الموت.لا بدّ لموتك أن يكون اغتيالاً.

السّؤال الذي لا بد من طرحه الآن، والذي يستكمل مشروع العلي ويدافع عنه ويمنعه من التبدّد، هو: من قتل حاتم العلي؟ ومن قتل سورياه؟ وكيف ننجو من هذا الموت الكثير؟

إقرأ أيضاً: سوريا 2020: صعود نجم أسماء وأفوله

الإجابة على مثل هذه الأسئلة تحتاج إلى ثورة جديدة، تعيد بثّ الحياة في الزمن السوري المفقود، الّذي يختصر كل زمننا في هذه البقعة من الخراب المفتوح. 

 
 
 
View this post on Instagram

A post shared by GoldenLineTv (@goldenlinetvseries)

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…