لا أذكر التاريخ بالتحديد. كان الرئيس رفيق الحريري لا يزال مقيمًا في المملكة العربية السعودية، وكنا نخاطبه بلقبه المحبب “أبو بهاء”. أذكر أنه اتصل بي من الرياض وكلّفني بزيارة قائد الجيش اللبناني. وكان القائد في ذلك الوقت الجنرال ميشال عون.
توجهتُ إلى اليرزة في الموعد المحدّد حيث رافقني أحد العسكريين إلى مكتب القائد.
كان اللقاء وديًّا. جلسنا متجاورَيْن في صالون المكتب. كان ثالثنا صوت فيروز. كان الصوت مرتفعًا حتى أنّني كنت أجهد لسماع صوت الجنرال. كنت مضطرًا أن أرفع صوتي حتى يسمعني. لذلك اضطررت أن أخرج عن موضوع المهمة لأسأل الجنرال: “هل تحب فيروز إلى هذه الدرجة؟”، في محاولة مهذبة للطلب منه أن يخفّض الصوت.
قال لي: “ليست القضية قضية فيروز. إنني أتعمّد أن أرفع صوت تسجيلها حتّى لا يسمعنا أخوات الهيك وهيك”. واستعمل عبارة بذيئة غير صالحة للنشر. وكان يقصد بـ”الهيك وهيك” جماعة المكتب الثاني.
قبل يوم من استشهاده اتصل بي هاتفيًّا لعمل طارئ. في ذلك الوقت انطلقت حملة تشويه وتضليل تتعلق بشرائه محصول الزيت من المزارعين، وتقديمه مساعدات إلى الجيش اللبناني والعائلات اللبنانية المحتاجة
عندما انتهى موضوع اللقاء الذي جئت من أجله، قال لي الجنرال وهو يودعني أمام باب مكتبه: “أوصيك أن تنقل هذه الرسالة إلى صاحبك (يقصد رفيق الحريري). قل له: لولاه لكان العسكري اللبناني ماشي حافي”.
لم أكن أعرف قبل ذلك أنّ رفيق الحريري يقدّم مساعدات إلى الجيش. لم يعلن عنها أبدًا. ولما نقلت إليه الرسالة لم يتلقّها بارتياح. لقد أوحى إليّ أنّه كان يريد أن يبقي الأمر داخليًا بينه وبين قيادة الجيش اللبناني. كل ما أذكره أنّه قال لي ردًّا على الرسالة: “خير إن شاء الله”. واحترامًا لرغبته لم أتحدث عن هذا الموضوع قبل الآن. وما كنتُ لأتحدث عنه اليوم، لو لم تصل حملات الافتراء والتجريح بحقّه إلى المستوى الذي وصلت إليه، خصوصاً من قائد الجيش السابق الرئيس السابق الجنرال إميل لحود الذي وصف اغتيال الحريري بأنّه “عمل رذالة”. كذلك لم أكن أعرف أنّ العلاقات بين قائد الجيش والمكتب الثاني سيئة، وأنّ الثقة بينهما معدومة إلى حدّ الاستعانة ببثّ أغاني فيروز للتشويش ومنع التنصّت على قائد الجيش نفسه. أما لماذا… فذلك موضوع آخر.
المهم أنّ رفيق الحريري كان يعطي بيمينه من دون أن تعرف يساره. ولم يكن ذلك وقفًا على الجيش. فعندما أنشأ مؤسسة الحريري، طلب منّا إعداد لوائح بأسماء الطلاب من كل المناطق اللبنانية ومن كل الأديان والمذاهب. وبالفعل بدأت هذه اللوائح تتضخّم وخشينا أن ينفجر تضخّمها في وجوهنا، بسبب العجز عن تلبية أصحاب الطلبات. ولذلك سألناه عن الميزانية المخصّصة للمؤسسة حتى نجنّب أصحاب الطلبات خيبات الأمل.
لا أنسى ردّه يومها. قال: “لا تسألوني عن الموازنة، كل ما عليكم أن تعدّوا لوائح بأسماء الطلاب المحتاجين، والأولوية للمتفوّقين من هؤلاء المحتاجين. لا تقفوا أمام جدار طائفي أو مذهبي. ولا أمام حاجز مناطقي. لا تسألوا عن العدد. أريدكم أن تهتموا فقط بالطلاب المحتاجين. أما الموازنة فهذا شأن بين الله وبيني. لا تتدخّلوا بيننا”.
لم نتدخّل. وهكذا خرّجت المؤسسة عشرات الآلاف من الجامعيين منهم المهندس والطبيب ورجل القانون. وكانت احتفالات التخرّج أسعد أيام حياته. كان يمنّي النفس بأن يلتزم كل متخرّج بعد أن يستقرّ في عمل منتِج، بتغطية نفقات طالب جديد متفوق ومحتاج. ولكن ذلك لم يتحقق مع الأسف.
لقد كان يخشى أن يضغط في هذا الاتجاه لتحقيق تكافل اجتماعي راقٍ، إلّا أنّه في الوقت ذاته كان يخشى من سوء تفسير هذا الضغط.
أذكر يومًا أنه انفجر غضبًا وألمًا عندما وجّهت إليه شخصية سياسية اتهامات ظالمة، فأصدرت مؤسسة الحريري بيانًا أعلن أنّ المؤسسة علّمت اثنين من أولاد هذه الشخصية، إلى أن تخرّجا من جامعتين في أوروبا. فعاتب الرئيس المسؤول في المؤسسة قائلًا: “متى كنا نمنّن الناس بالمساعدة التي نقدّمها لهم؟ هذا الأمر يسيء إليّ أكثر من إساءتهم”.
منذ أن شكّل الرئيس رفيق الحريري أول كتلة برلمانية أرادني أن أكون أمين السرّ. فأتواصل مع الأعضاء وأعدّ مشروع البيانات التي تصدر عنها. ومن خلال تواصلي اليومي مع الرئيس، كنت على بيّنة من المواقف التي يريد التحدث عنها. فكنت أعدّ قبل يوم من الاجتماع مشروع البيان، ثم أعيد النظر فيه بعد الاجتماع في ضوء المواضيع التي تُطرح والمناقشات التي تجري. وبعد اطّلاع الرئيس عليه أتولّى نشره.
حدث ذات مرّة بعد انتهاء اجتماع للكتلة، أن توجهت مع الرئيس من قاعدة الاجتماع إلى مكتبه لصياغة النصّ الأخير للبيان. لكن في الطريق من القاعة إلى المكتب (أقل من 15 مترًا) تقدّم منه أحد مساعديه وقال له إنّه مطلوب لأمر ضروري على الهاتف. رافقته كالعادة إلى مكتبه وانتظرت أن يردّ على الهاتف حتّى أطرح معه التعديلات على مشروع البيان. غير أنّ الرئيس امتقع لون وجهه احمرارًا واسودادًا، حتّى بدا لي وكأنّه إنسان آخر. ألقى بسماعة الهاتف فوق المكتب دون أن ينبذ بكلمة. سألته: “خير إن شاء الله ماذا حدث؟”.
لم أكن أعرف قبل ذلك أنّ رفيق الحريري يقدّم مساعدات إلى الجيش. لم يعلن عنها أبدًا. ولما نقلت إليه الرسالة لم يتلقّها بارتياح. لقد أوحى إليّ أنّه كان يريد أن يبقي الأمر داخليًا بينه وبين قيادة الجيش اللبناني
قال لي بألم شديد: “من قاعة الاجتماع إلى هنا، أحدهم اتصل بالسوريين ونقل إليهم ما قلناه. فأزعجهم ذلك. أنا لا يهمني انزعاجهم، ولكن لم أكن أدرك أنّ في كتلتي عملاء بهذا الرخص”. ومنذ ذلك الوقت أخذ قراره الجريء بالتخلص من “الودائع السورية”!
قبل يوم من استشهاده اتصل بي هاتفيًّا لعمل طارئ. في ذلك الوقت انطلقت حملة تشويه وتضليل تتعلق بشرائه محصول الزيت من المزارعين، وتقديمه مساعدات إلى الجيش اللبناني والعائلات اللبنانية المحتاجة.
ولأنّ هذه العملية الخيرية التي اعتاد عليها، صودف وقوعها على مسافة زمنية قريبة من الانتخابات البرلمانية، وُجهت إليه تهمة توظيف المساعدات لمصلحته الانتخابية. وكأنّها المرة الأولى التي يقدم فيها مساعدات! ولم يقتصر الأمر على مجرد الاتهام، بل جرى اعتقال عدد من العاملين على التوزيع. فطلب الرئيس مني يومها إعداد بيان للردّ على هذه الحملة. وتوجه هو لتعزية إحدى العائلات البيروتية بوفاة أحد أبنائها.
ولدى عودته أطلعته على نصّ مشروع البيان، وفيه استشهدت بالآية القرآنية الكريمة واصفًا صاحب الحملة بأنّه “منّاع للخير معتدٍ أثيم”.
يومها وافق الرئيس – يرحمه الله – على البيان، لكنّه وقف أمام هذا التشبيه، وقال لي: “إنّه شديد الوطأة. الأفضل أن نحذف هذا الاستشهاد”. ففعلت. وفي اليوم التالي، فإنّ الذين شعر الرئيس، بحسّه الإنساني المرهف، بأنّ النص شديد الوطأة عليهم، فجّروا فيه أكثر من طنّ من المتفجرات.
على مدى سنوات عملي الطويلة مع رفيق الحريري (من عام 1983 حتّى استشهاده) رأيتُ الدمع في عينيه مرتين:
– المرّة الأولى في بيته في قريطم. يومها جاءته سيدة من بيروت تطلب مساعدة، تأثر بالاستماع إليها، فانهمر الدمع من عينيه.. وانهمرت مساعدته لها.
إقرأ أيضاً: رجلٌ من هذا النوع كيف تتركونه يموت؟
– المرة الثانية لدى عودته من زيارته الأخيرة دمشق وما لاقاه هناك.. وفي طريق عودته في عنجر، من سوء المعاملة والتجنّي. يومها سالت دموعنا.. حتّى وقع الانفجار الإرهابي الفظيع الذي فجّر معه خزان الدموع.