كان من قَدَر رفيق الحريري ومن أقدارنا أن يبقى زائرَنا الدائم. مثل جميع الذين التقوا مع التاريخ في المواعيد الحاسِمة. ولذلك فإنّ الضمائر تستيقظ عند كل أزمة أو منعطف، لتستحضرهم، وتتساءل أين هم اليوم.
هذا حدَث عندنا وعند الآخرين. لكنه حدث عندنا بالذات، من فرط التراجع في صنف الكبار الذين يحسنون الارتقاء إلى القِمم وقتَ الامتحانات القاسية للأوطان، في أوان التحرير والإنقاذ.
رفيق الحريري كان محرّرًا لنا من حصارات كثيرة، وكان من صَنف فريد. فهو تمرّد على فكرة “لبنان الساحة” وذُلّ الساحة والحروب والرُّكام. كلّ حركته لو اختُصرت، لما كانت غير حركة تمرّد. ولم يكن بحاجة إلى تجييش الناس وراءه بالعقائد والشعارات. علّمته تجربة الحياة، قبل الوصول إلى سُدّة المسؤولية، بأنّ المهمّ هو الإنجاز. وهو كان رجل إنجازات. كأنّه في عجلة من أمره، كأنه كان مُدركًا في أعماقه، بأنّ السنوات معدودة، ولا وقت سوى للعمل. لم يكن عنده من وقت للنوم ولا للمرض، وأكاد أقول إنّه لم يكن عنده من وقت للموت.
في زيارةٍ له إلى برلين بعد توحيد ألمانيا، سأله الخبراء الألمان كيف أعاد توحيد بيروت، حتّى يقتدوا بها لإعادة توحيد برلين. فشرحها لهم بكل بساطة. وفي زيارةٍ إلى روما حيث التقى رئيس وزرائها “رومانو برودي” إلى مائدة غداء، سأله هذا الأخير: ما هو تصوُّره لحلّ أزمة الجزائر يومذاك، فقدّمها له. ولدى لقائه الأوّل مع البابا يوحنا بولس الثاني في نيسان 1993، قال له البابا بلهجته الواثقة: “أنت المسؤول”. وبعد أيام من اغتياله، قال رئيس وزراء الياباني لمسؤول دبلوماسي لبناني: “رجل من هذا النوع كيف تتركونه يموت؟”.
رفيق الحريري كان محرّرًا لنا من حصارات كثيرة، وكان من صَنف فريد. فهو تمرّد على فكرة “لبنان الساحة” وذُلّ الساحة والحروب والرُّكام
لعلّ في حيثيات قرارات المحكمة الدولية الصادرة في شهر آب الماضي، ما يعطي الجواب، بصرف النظر عن تحديد أحد المسؤولين المباشرين عن الاغتيال. إذ جاء في تلك الحيثيات ما معناه، أنّ الظروف التي أدّت إلى اغتياله، لعلّها حركته وحجم إنجازاته، ومروحة تحركاته الداخلية والخارجية، وقدراته على مخاطبة جميع مقرّري العالم، وإعادة لبنان إلى استقلاله وحرية قراره. ولكن قبل كل ذلك، حرصه على وحدة اللبنانيين وعيشهم الواحد.
فلاديمير بوتين كان مَدينًا له بالعمل على إدخال روسيا في منظمة العالم الإسلامي، وما يزال حتّى الساعة يحمل له هذا الجميل. وذات مرّة كان يحمل بين يديه ملفًا كبيرًا يقرأه باهتمام كبير، فقال لِمَن حوله: “إنّه مشروع دستور دولة فلسطين المستقبلية”. وعندما قام مرّة بزيارة المغرب، وبعد جولة مضيئة في مسجد الدار البيضاء، مسجد “الحسن الثاني”، خرق الملك يومذاك البروتوكول، وقلّده في قصر الصخيرات وسامًا من أرفع الأوسمة المغربية.
صديق المهاتير محمد، وجاك شيراك وبيل كلينتون وحسني مبارك، وبالطبع الملك فهد بن عبد العزيز، بل صديق كلّ من التقاه. سِرُّهُ، سحرُهُ، كان في تلك الشخصية التي جُبِلت بالإنسانية قبل كلّ شيء. سأله مرّة أحد السفراء إلى ماذا يسعى؟ فقال له: “أريد عندما أنظر كل صباح إلى مرآتي، أن ترسل لي هذه المرآة صورة رجل مستقيم”.
على يديه آثار عطاءاتٍ مثل كرم الأم عندما تعطي. لا يسأل: للجامعات، للطلاب، للمؤسسات، للجمعيات، للأفراد… هو نبع دافق بالخير لا ينضب. والذين خطّطوا ونفّذوا الاغتيال، إنّما أرادوا تجفيف ذلك النبع.
هل تُختصر مسيرة رفيق الحريري في كلمات، في صفحات؟
كل سنة تمرّ، كل ذكرى تحلّ، تحمل إلينا صورته التي غُرِست في القلوب قبل طيب التراب. في كلّ سنة منذ ذلك اليوم المشؤوم، تحمل الذكرى اللبنانيين ليس على التذكّر، بل على الشوق إلى الكبار. كون الواقع القائم، بتراكم الأزمات كلّها، يحتاج إلى منقذ. ولم يعرف اللبنانيون في الحِقب الحديثة مع رجال الاستقلال وتجربة فؤاد شهاب، سوى رفيق الحريري الذي أعاد تثبيت القواعد في ما يعود إلى الأصول، إذ ليس من مسؤول أكثر منه، على طول التاريخ الاستقلالي، من تحدّث بهذه الكثافة عن العيش المشترك. في بياناته الوزارية وخطبه ولقاءاته الانتخابية. كانت تلك قضيته الأولى.
صديق المهاتير محمد، وجاك شيراك وبيل كلينتون وحسني مبارك، وبالطبع الملك فهد بن عبد العزيز، بل صديق كلّ من التقاه. سِرُّهُ، سحرُهُ، كان في تلك الشخصية التي جُبِلت بالإنسانية قبل كلّ شيء
لم تهدأ حركته. الآفاق كلها مفتوحة أمامه، أمام طائرته التي حطّت في كل العواصم شرقًا وغربًا من طوكيو إلى بكين، إلى سيول إلى القاهرة ودول الخليج والرياض بالطبع، وإلى موسكو وأتاوا ولندن، وبرلين وباريس ومدريد، وفيينا وأثينا وبرازيليا، وبيونس أيريس وواشنطن ونيويورك، ارتفعت أعلام لبنان بعدما كانت قد اختفت. وأصبح اسم رفيق الحريري مرادفًا للبنان.
إقرأ أيضاً: هذا ما قاله لي رفيق الحريري…
وكان اغتياله، في عدالة تلك الأيام وعدالة الأيام الحالية، سيتحوّل إلى ملف وينتهي الأمر. لولا سهر الأصدقاء الدوليين، خصوصاً صديقه الراحل الرئيس جاك شيراك، ومتابعة القوى السيادية الداخلية التي طالبت بالعدالة الدولية، تلك التي يطالب بها اليوم كلّ من أُصيب في بيروت التي أُعيد هدمُها وهدم مرفئها، بعدما أعاد هو بناءها. وبعدما تحوّلت قضايا كلّ الشهداء الذين لحقوا به، إلى ملفات شبه فارغة في القضاء بكل أسف. بانتظار أن يتحقّق الإصلاح المنشود، بدءًا بذلك القضاء، حصن الوطن وسياجه.
بعيدًا عن ذكرى اليوم الواحد، رفيق الحريري هو الرفيق الدائم. لأنّه رسم الخريطة الواجب اتّباعها، لكلّ من يأتي بعده. وهي خريطة لم يجد أحد بَعدُ بديلًا منها. فالبنّاؤون لا يأتون كل يوم.