فجأة بات الإقليم، الذي انفصل عن الصومال “الأمّ” عام 1991 وتعامل معه العالم كخبر هامشيّ، متناً يشغل العالم ويطرق باب واشنطن.
بعد ساعات من إعلان رئيس الحكومة الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو، في 26 الشهر الجاري، اعتراف إسرائيل بإقليم “أرض الصومال” دولة مستقلّة، سُئل الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب هل تحذو الولايات المتّحدة حذو إسرائيل، لا سيما أنّ في الاعتراف ما يُحكى عن مشروع لتهجير غزّيّين إلى الدولة “الوليدة”. أجاب ترامب: “إنّه سؤال مهمّ”.
في 27 من الشهر الجاري، أي في اليوم التالي لحدث أراد نتنياهو إنجازه قبل ساعات من لقائه بالرئيس الأميركيّ في فلوريدا في 29، صدر بيان لافت، يكاد يكون عابراً للقارّات، عن كلّ من مصر، قطر، الجزائر، اتّحاد جزر القمر، جيبوتي، غامبيا، إيران، العراق، المملكة الأردنيّة الهاشميّة، الكويت، ليبيا، جمهوريّة المالديف، نيجيريا الاتّحاديّة، سلطنة عمان، باكستان، فلسطين، قطر، السعوديّة، الصومال الفدراليّة، السودان، تركيا، اليمن ومنظّمة التعاون الإسلاميّ، يضع نقاطاً فوريّة عاجلة على الحروف.
فجأة بات الإقليم، الذي انفصل عن الصومال “الأمّ” عام 1991 وتعامل معه العالم كخبر هامشيّ، متناً يشغل العالم ويطرق باب واشنطن
استخفاف ملتبس
أدانت الدول الموقّعة بأشدّ العبارات هذا الاعتراف، معتبرة أنّه يمثّل خرقاً سافراً لقواعد القانون الدوليّ وميثاق الأمم المتّحدة، الذي يؤكّد “احترام سيادة الدول ووحدة وسلامة أراضيها”. بدا أنّ في تلك الكلمات ما يهدف أيضاً إلى إجهاض أيّ “نزوات” انفصاليّة في المنطقة تجد لدى إسرائيل بيئة حاضنة.
شدّد البيان على الدعم الكامل لسيادة جمهوريّة الصومال الفدرالية، ورفض أيّ إجراءات من شأنها الإخلال بوحدة الصومال وسلامته الإقليميّة وسيادته على كامل أراضيه. وأكّدت الدول الموقّعة رفضها القاطع لأيّ محاولات للربط بين هذا الإجراء وأيّ مخطّطات تستهدف تهجير أبناء الشعب الفلسطينيّ خارج أرضه، مشدّدة على أنّ مثل هذه المخطّطات مرفوضة شكلاً وموضوعاً وبصورة قاطعة، لما تمثّله من انتهاك صارخ لحقوق الشعب الفلسطينيّ الثابتة وغير القابلة للتصرّف.
كانت هذه الفقرة حاسمة في الموقف من احتمال (نفته مصادر أرض الصومال خلال هذا العام) نقل فلسطينيّين من قطاع غزّة إلى هذا البلد مقابل اعتراف إسرائيليّ قد يمهّد لاعتراف أكبر، ربّما أميركيّ أيضاً.
بعد صدور هذا البيان سُئل ترامب من جديد عن موقفه من مسألة الاعتراف بـ “صومالي لاند”، قال إنّه لم يسمع سابقاً بهذه المنطقة ولا يعرف عنها شيئاً وتعامل مع الخبر باستخفاف ملتبس.
بدا أنّ الإدارة أخذت علماً بغضب كلّ المنطقة من عبث جديد يمارسه نتنياهو، هذه المرّة على ضفاف البحر الأحمر وعلى شاطئ من 850 كلم على خليج عدن، وعلى بوّابة باب المندب ومن داخل القرن الإفريقيّ. ارتأى رجل البيت الأبيض التموضع بما يراعي ويجاري مزاج دول حليفة للولايات المتّحدة يملك بعض زعمائها علاقات قريبة وشخصيّة معه. آثر إسقاط ما اعتبره “سؤالاً مهمّاً” والتلطّي خلف ذريعة “الجهل بالشيء”.
إنْ تمثّل ديناميّة البيان العربيّ – الإفريقيّ – الإسلاميّ نهجاً حيويّاً في مقاربة تحدّيات باتت نافرة ومتناسلة من وهج ما برحت إسرائيل تنهله من واقعة “طوفان الأقصى”، تكشف عن وعي ناضج لأبجديّات الدبلوماسيّة الدوليّة التي تعمل على جمع الأضداد وتجميد التباينات ووعي المخاطر المشترَكة في لحظة فارقة.
شدّد البيان على الدعم الكامل لسيادة جمهوريّة الصومال الفدرالية، ورفض أيّ إجراءات من شأنها الإخلال بوحدة الصومال وسلامته الإقليميّة وسيادته على كامل أراضيه
الخطر الاستراتيجيّ الأوّل
يميط الأمر أيضاً اللثام عن اشتغال مطابخ سياسيّة عالية المستوى في الرياض والقاهرة لاجتراح ردود تتدافع وتحتاج إلى مخيّلات متقدّمة ومقاربات من “خارج الصندوق” للسعي إلى وأد مشروع يتلاعب بتوازنات هي من ثوابت أمن المنطقة منذ عقود. فلا يُستبعد في ضوء التقاء المصالح بين إقليم أرض الصومال التوّاق إلى الحصول على اعتراف دوليّ من خلال ذلك الإسرائيليّ، أن تتّجه المصالح الإسرائيليّة إلى بناء منشأة عسكريّة واستخباريّة لتعزيز العمق الاستراتيجيّ الإسرائيليّ في القرن الإفريقيّ.
تعلن إسرائيل جهاراً التمدّد إلى شواطئ البحر الأحمر والإطلال على مضيق باب المندب، بوّابة قناة السويس الجنوبيّة، وجعل وجودها العسكريّ المقبل جزءاً من الأمن الإقليميّ لدول البحر الأحمر. سبق للقاهرة أن تنبّهت إلى سعي إثيوبيا إلى عقد صفقة مع “أرض الصومال” تمنحها إطلالة بحريّة من خلال ميناء بربرة.
لم تستسِغ مصر حينها أن تشرف إثيوبيا، التي تفاقم النزاع معها بسبب أعمال بناء سدّ النهضة، على مناطق مائيّة تعتبرها مصر جزءاً لصيقاً لأمنها الاستراتيجيّ. تحرّكت القاهرة في تمّوز 2024 آنذاك ملوّحة بأدوات غليظة، منها تفعيل اتّفاق عسكريّ مع مقديشو شمل تزويد الصومال بالأسلحة الثقيلة ونقل قوّات مصريّة للمرابطة داخل ذلك البلد، بما أوحى بذهاب مصر المحتمَل إلى التدخّل العسكريّ المباشر.
إقرأ أيضاً: هل دقّت ساعة الحسم المصريّ في السّودان؟
سمع دونالد ترامب منذ زيارته المملكة السعوديّة في أيّار الماضي أنّ إسرائيل باتت تشكّل الخطر الاستراتيجيّ الأوّل على دول المنطقة. سمع أيضاً أنّ نتنياهو يمثّل عقبة كبرى أمام طموحاته إلى السلام في المنطقة، بما في ذلك ما يصبو إليه من توسيع اتّفاقات إبراهيم. يعرف نتنياهو هذا الصيت عنه، وتطيب له تلك السمعة، ويسوّق داخل سوقه الانتخابيّ الداخليّ أنّها امتياز لا يملكه أيّ منافس آخر وتقضّ مضجع المنطقة وأداة وحيدة تحمل الأمن لإسرائيل والطمأنينة لناخبيه من اليمين إلى أقصاه.
يضيف نتنياهو ورقة جديدة من أوراق الابتزاز والمقايضة على طاولة محادثاته مع ترامب. يبقى أنّ الموقف الأميركيّ سيكون محدِّداً للمدى الذي ستذهب إليه الدول الموقّعة على بيان الإدانة، وموجّهاً للتدابير السياسيّة والدفاعيّة المحتملة التي تقي المنطقة من وقوع أحد بحارها وأحد ممرّاتها المائيّة داخل فضاءات نفوذ إسرائيل وخرائطها الاستراتيجيّة. وقد يشكّل البيان العابر للقارّات واجهة جديدة لتحوّلات تستدرج اجتراح نظام إقليميّ ذي امتدادات عابرة للقارّات.
قد يتطوّر ما اعتبره ترامب “سؤالاً جيّداً” ثمّ زعم أمّيّته بملفّ “أرض الصومال” لاحقاً، إلى مزاج آخر بعد مداولاته مع نتنياهو فيستحسن اعترافاً بالبلد المنقسم عن الصومال ما دام قد يضيف إنجازاً على اللائحة الإبراهيميّة وينال مقابله تنازلاً من نتنياهو في ملفّ من الملفّات الساخنة من غزّة إلى إيران مروراً بسوريا ولبنان.
لمتابعة الكاتب على X:
