سقوط سرديّة المقاومة على طريقة طهران

مدة القراءة 7 د

لا تسقط فكرة المقاومة ما دام الاحتلال قائماً. لكنّ المحور الإيرانيّ استهلك هذه الفكرة، واستنفدها إلى درجة كبيرة، بعد مَهَالك حرب السنتين (2023-2025). ما سقط عمليّاً هو السرديّة الإيرانيّة عن إمكان المقاومة بالواسطة. قد تكون طهران أدركت أخيراً حدود قدراتها. لكن بعد فوات الأوان.

 

بعد مرور أكثر من عامين على الحرب الإسرائيليّة، يتبيّن بوضوح أنّ كلّ ما كان يرفضه الرئيس الأميركيّ السابق جو بايدن علناً، بشأن مصير غزّة، خلال الحرب، وفي اليوم التالي، كان نتيجة اطّلاعه على المقترحات الإسرائيليّة منذ الأيّام الأولى للمعركة.

رفض بايدن مسبقاً قيام الجيش الإسرائيليّ بعمليّة بريّة شاملة في منطقة هي الأكثر اكتظاظاً في العالم، وتحفّظ على اقتحام رفح، بسبب الخسائر الهائلة المتوقّعة بين المدنيّين والتي لا يمكن تجنّبها، والتي تضرّ بسمعة إسرائيل في العالم. لكنّ نتنياهو كان يتعمّد إلحاق أفدح الضرر بالنسيج الاجتماعيّ الفلسطينيّ، باستعمال الذكاء الاصطناعيّ، لإبادة الكتلة السكّانيّة الحاضنة لـ”حماس” وبقيّة الفصائل، وليس المستهدَفون المقاتلين فقط، بل هم وكلّ عائلاتهم، وكلّ من يمتّ إليهم بصِلة. لا يعتبرون هذا الكمّ الكبير من الضحايا المدنيّين “آثاراً جانبيّة” للحرب فقط، بل هم كلّهم “حماس” بنظرهم من صغيرهم إلى كبيرهم.

نصف القطاع محتلّ

رفض بايدن احتلال غزّة أو جزء منها، فيما الجيش الإسرائيليّ يحتلّ الآن أكثر من نصف القطاع، ويتمدّد، ويتذرّع بعدم تطبيق “حماس” للاتّفاق، كبقاء جثّة إسرائيليّ مجهولة المكان، ورفض الحركة تجريدها من السلاح، وذلك كي لا ينتقل إلى المرحلة الثانية، فيما يقضم الجزء المحتلّ عمليّاً.

 ما سقط عمليّاً هو السرديّة الإيرانيّة عن إمكان المقاومة بالواسطة. قد تكون طهران أدركت أخيراً حدود قدراتها

حذّر بايدن من تهجير الفلسطينيّين من القطاع، إلّا أنّ ما يجري، حتّى بعد وقف العمليّات العسكريّة، إنّما هو عمليّة هندسيّة لتدمير المنشآت والمباني بشكل منهجيّ، وخاصّة بعد اتّفاق وقف إطلاق النار في 11 تشرين الأوّل الماضي، وراء الخطّ الأصفر. الهدف هو منع الفلسطينيّين من العودة إلى مواطنهم، ومن إعادة بنائها، ودفعهم إلى الهجرة التي ستكون الحلّ النهائيّ. بات القطاع بهذه الطريقة مجموعة كبيرة جدّاً من الخيام وبقعة غير قابلة للعيش ومن شبه المستحيل بناؤها في المدى المنظور.

لكنّ الأهمّ ما قاله بايدن أيضاً من أنّ إسرائيل لا يمكنها القضاء على فكرة المقاومة، وأنّ هدف نتنياهو القضاء المبرم على حركة حماس هو هدف غير واقعيّ، وينبغي الولوج إلى حلّ الدولتين. إلّا أنّ نتنياهو تجاهل كلّ هذه التحذيرات، ويستثمر كلّ الوقت المتاح له من أجل القضاء ليس على المقاومة في القطاع ولا على فكرة المقاومة وحسب، بل على أيّ مشروع لدولة فلسطينيّة ولو منزوعة السيادة. وما تقوم به الحكومة الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة من تجريف مخيّمات اللاجئين وبناء مستوطنات جديدة، وما يرتكبه أفراد ميليشيات المستوطنين من اعتداءات متواصلة على السكّان الفلسطينيّين يندرجان في الوجهة نفسها، وهي تجريف القضيّة الفلسطينيّة وتجويفها حتّى تصبح بلا أرض وبلا مغزى.

كان الهدف الأساسيّ لعمليّة “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 هو توجيه ضربة موجعة للاحتلال في محيط القطاع

من المفارقات أنّ الإدارة الأميركيّة، في أيّام بايدن، وفي أيّام دونالد ترامب أيضاً، اعترضت ولا تزال تعترض على انتهاكات إسرائيل المتكرّرة للتفاهمات الثنائيّة، لقواعد الحرب، للقانون الدوليّ الإنسانيّ ولاتّفاقات وقف إطلاق النار. لكنّها تستمرّ في شحن أحدث الأسلحة إلى إسرائيل وتزوّدها بالذخائر اللازمة للاستمرار بدفن الدولة الفلسطينيّة. ما يقوله الرئيس صباحاً يمحوه في الليل، وهكذا دواليك. وهو ما بات يُحدث ارتجاجات في الوعي الجمعيّ الأميركيّ من هذه التناقضات المؤلمة، ويستعصي على الفهم حتّى وسط أكثر الاتّجاهات اليمينيّة المؤيّدة للرئيس ترامب.

دور 7 أكتوبر

كان الهدف الأساسيّ لعمليّة “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 هو توجيه ضربة موجعة للاحتلال في محيط القطاع، والحصول على أكبر عدد ممكن من الأسرى الإسرائيليّين لتصفير السجون الإسرائيليّة من المعتقلين الفلسطينيّين، وهو هدف أثير لدى القائد يحيى السنوار. إلّا أنّ تداعيات العمليّة لم تكن متوقّعة، وتجاوزت كثيراً مقصدها الأوّليّ. وبدت العواقب الوخيمة أمام أنظار القيادة العسكريّة لـ”حماس”، فكانت دعوة محمد ضيف لـ”الحزب” في لبنان إلى الانضمام إلى الحرب لفرض فكّي كمّاشة على الجيش الإسرائيليّ، في أقصى الشمال، وفي أقصى الجنوب.

المقاومة

بالطبع، لم يكن انضمام “الحزب” ممكناً. لا حشود، ولا استعدادات. الأهمّ من ذلك، تبخّر عنصر المباغتة، وهو العنصر الأساسيّ لنجاح أيّ عمليّة. فوق ذلك، كان “الحزب” حريصاً على عدم تعرّض حاضنته الشعبيّة لدمار شامل أوسع ممّا حدث في حرب تمّوز 2006، فكان خياره “منزلة بين المنزلتين”، فلا حرب كاملة ولا هدنة كاملة.

الأهمّ ما قاله بايدن أيضاً من أنّ إسرائيل لا يمكنها القضاء على فكرة المقاومة، وأنّ هدف نتنياهو القضاء المبرم على حركة حماس

ربّما كان لهذا النهج الوسطيّ غير المجدي عسكريّاً في حرب غزّة دوره الأساس في اعتراض إدارة بايدن على شنّ إسرائيل حرباً واسعة على لبنان، في 11 تشرين الأوّل من ذلك العام، أي بعد أربعة أيّام فقط من “طوفان الأقصى”، وثلاثة أيّام على بدء حرب الإسناد. الحرب على لبنان لم تُلغَ، بل تأجّلت وحسب. كانت الخطّة هي نفسها التي نفّذها نتنياهو تقريباً في العام التالي: تفجير البيجر واللاسلكي، ثمّ اغتيال القادة، في الصفوف الأولى، فتدمير مخازن الصواريخ. سواء كان محور المقاومة على علم بالعمليّة الكبرى أم لا، أصابت آثارها الاستراتيجيّة المحور كلّه من دون استثناء وصولاً إلى إيران نفسها.

سقوط السّرديّة

هل هو فقط خطأ حركة “حماس” في إطلاق معركة التحرير من دون تحضير ولا استعداد، بمجرّد تهاوي الخطوط الدفاعيّة للجيش الإسرائيليّ في غلاف غزّة، أم هو فشل الاستراتيجية الإيرانيّة القائمة على الردع الصاروخيّ في مقابل القدرة الجوّيّة الهجوميّة الإسرائيليّة البالغة التطوّر؟

أثبتت معركة الـ12 يوماً بين إسرائيل وإيران في حزيران الماضي أنّ للصواريخ البالستيّة الإيرانيّة البعيدة المدى فعّاليّة كبيرة في ضرب العمق الإسرائيليّ، ولم تكن لأيّ منظومات صاروخيّة أخرى في محيط إسرائيل، سواء من لبنان، أو من سوريا، أو حتّى من اليمن، أيّ قيمة ميدانيّة حقيقيّة. لماذا تركت أذرعها تقاتل وحدها طوال الأشهر السابقة؟ ولماذا لم تتدخّل أصلاً لنصرة غزّة، وهي قادرة على تدمير تل أبيب؟

ما يُهمّنا في هذه العجالة أنّ سرديّة المقاومة على الطريقة الإيرانيّة، التي استمرّت على مدى أربعة عقود وأكثر، تعرّضت لاهتزاز شديد

طبعاً، هو سؤال أيديولوجيّ الطابع، وليس عسكريّاً. الإيرانيّون كانوا يعون خطورة الصدام المباشر مع الولايات المتّحدة. لكنّه السؤال الذي تردّد كثيراً خلال السنتين المنصرمتين، لا سيما في فلسطين وفي لبنان.

إقرأ أيضاً: “الأمّة اللّبنانيّة” القلِقة من انبعاث سوريا

ما يُهمّنا في هذه العجالة أنّ سرديّة المقاومة على الطريقة الإيرانيّة، التي استمرّت على مدى أربعة عقود وأكثر، تعرّضت لاهتزاز شديد. الأكثر خطورة أنّ هذه السرديّة برّرت الهيمنة على العراق، دعم النظام الإجراميّ لبشّار الأسد في سوريا، لإمداد “الحزب” في لبنان، وتصدير الخبرة إلى اليمن المسيطَر عليه حوثيّاً، أي أنّ طهران شقّت طريق القدس عبر أربع عواصم عربيّة، فجعلتها أرضاً خراباً، ودولاً فاشلة، ولم تصل إلى الهدف الرسميّ لهذه السرديّة، أي تحرير القدس، بل كانت النتيجة عكسيّة.

مواضيع ذات صلة

“أبو عمر”… سوسيولوجيا بُنية التّبعيّة

حين تتصدّر أخبار حدّاد سيّارات من وادي خالد عناوين الصحافة العربيّة والدوليّة، لأنّه نجح لبرهة في انتحال شخصيّة أمير سعوديّ وابتزاز البعض في نادي الطبقة…

ترامب – نتنياهو: اختبار حدود التحالف..

قبل أيّام من وصول رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، يسود في العواصم المعنيّة شعور ثقيل بأنّ الزيارة تتجاوز طابعها الثنائيّ المعتاد. ليست محطّة…

صفقة بنغازي: لماذا تُسلِّح باكستان حفتر؟

في 23 كانون الأوّل الجاري سقطت طائرة تقلّ وفداً ليبيّاً عسكريّاً رفيع المستوى في طريق العودة من زيارة لأنقرة. قضى كلّ الركّاب بمن فيهم رئيس…

هل دقّت ساعة الحسم المصريّ في السّودان؟

يكاد يكون الفصل بين مصر والسودان مستحيلاً. النيل، شريان الحياة في البلدين، لا يربط الجغرافيا فحسب، بل يؤسّس لوحدة مصير تتجاوز الحسابات السياسيّة المتغيّرة. ما…