في زمن الانقسام الحادّ، تعود الأسئلة القديمة عن الطائفيّة: لماذا نشأت؟ كيف تغيّرت؟ ولماذا بات تجاوزها اليوم أكثر تعقيداً من أيّ وقت مضى؟
جاء اعتماد التوزيع الطائفيّ في متصرفيّة جبل لبنان بهدف توفير التمثيل الأفضل لأهل الجبل. بعد سقوط نظام القائمقاميّتين والصدام بين الموارنة والدروز عام 1860 والاعتداءات التي ذهب ضحيّتها آلاف المسيحيّين في دمشق (وهما حدثان منفصلان)، سعت السلطنة والدول الأوروبيّة إلى احتواء الفتنة للحؤول دون تمدّدها. اعتُمد الحلّ الأكثر ملاءمة لخصوصيّة الجبل في زمن ما قبل الأيديولوجية. ساد الاستقرار لأكثر من نصف قرن إلى حين اندلاع الحرب العالميّة الأولى وسقوط المتصرفيّة والسلطنة.
تبدّلت الأوضاع مع الانتدابَين الفرنسيّ والبريطانيّ في مناطق نفوذ تقاسمها الطرفان وفق اتّفاق سايكس- بيكو. سارت فرنسا بخيارات متعدّدة إلى أن حُسم الأمر بإنشاء دولتَي لبنان وسوريا. أمّا بريطانيا، الأكثر نفوذاً في المنطقة، فكان هامش تحرّكها أكثر اتّساعاً.
تقاطع السّياسيّ بالطّائفيّ
شهدت تلك المرحلة عدّة مشاريع دول: المشروع الهاشميّ، الأوسع نطاقاً، بقيادة الشريف حسين وأبنائه، مشروع الدولة في لبنان برعاية البطريرك الياس الحويّك، مشروع دولة الخلافة بدافع من “الإخوان المسلمين” في مصر، لم يرَ النور لأسباب شتّى. وسقط مشروع الدولة الكرديّة إثر معارضة بريطانيا وجهات أخرى. مشروع آخر من خارج السياق الإقليميّ أطلقته الحركة الصهيونيّة في فلسطين بدعم بريطانيّ أدّى إلى إنشاء دولة إسرائيل عام 1948.
لم تكن لأيّ من الأطراف الطامحة القدرة الذاتيّة لبلوغ غايتها بلا دعم خارجيّ. دعم بريطانيا أثمر دولتين بقيادة هاشميّة في الأردن والعراق، بالإضافة إلى دول أخرى في الخليج العربيّ. دعم فرنسا أثمر دولة لبنان الكبير. في فلسطين جاء الصدام بين العرب واليهود لمصلحة إسرائيل وأطلق نزاعاً لمّا ينتهِ.
ما يعنينا هنا أنّ الطائفيّة بحدّ ذاتها لم تكن السبب المباشر للانقسام الداخليّ، بل الخلاف السياسيّ على موقع لبنان ودوره في النزاع العربيّ – الإسرائيليّ بعد حرب 1967
في لبنان لاقى مشروع الدولة رفضاً، خصوصاً في الأوساط الداعمة للمشروع العربيّ الهاشميّ، إلى حين الاستقلال عام 1943 المتلازم مع الميثاق الوطنيّ. هكذا تقاطع البعد السياسيّ مع البعد الطائفيّ دعماً أو رفضاً لمسار انطلق. في دستور 1926 جاء تمسّك بعض الجهات الإسلاميّة بالتمثيل الطائفيّ ضمانة للدور، وإن بصيغة مؤقّتة، وتمّ الاعتراف الرسميّ بالمذهب الجعفريّ.
بين الاستقلال ومنتصف السبعينيّات، تراجعت حدّة الطائفيّة في العمل السياسيّ في لبنان وبلغت أدنى مستوياتها عشيّة اندلاع الحرب عام 1975. مهّدت عوامل عدّة لهذا التحوّل، أبرزها التوجّه الإصلاحيّ الذي أرساه الرئيس فؤاد شهاب في إدارة الدولة وبروز البعد الأيديولوجيّ في السياسة المحليّة معزّزاً بالتوجّه القوميّ العربيّ بقيادة الرئيس المصريّ الراحل جمال عبدالناصر وحزب البعث. ثمّ جاءت هزيمة 1967 لتعطي زخماً جديداً لأحزاب اليسار التقليديّ والراديكاليّ، خصوصاً في لبنان حيث الحرّيات السياسيّة والإعلاميّة متاحة.
قبل اندلاع الحرب، كانت التحالفات السياسيّة عابرة للطوائف. أقام “الحلف الثلاثيّ” بين القادة الموارنة، الذي نشأ بوجه الشهابيّة في انتخابات عام 1968، تحالفات في الوسط الإسلاميّ أدّت إلى انتخاب مرشّح الوسط رئيساً للجمهوريّة عام 1970. إلّا أنّ الانقسام الأعمق تمحور حول الموقف من الوجود الفلسطينيّ المسلّح، وسرعان ما أخذ أبعاداً طائفيّة مع تحييد الجيش اللبنانيّ وتمدّد “الجيش” الفلسطينيّ بدعم داخليّ وخارجيّ.
بناء الثّقة
ساد اعتقاد في أوساط اليسار بقيادة كمال جنبلاط بأنّ الطائفيّة تلفظ أنفاسها، وأنّ التغيير آت بدعم من الثورة الفلسطينيّة، “رافعة” التغيير المنشود. في المقابل، جاءت ردود الفعل في الوسط المسيحيّ في الاتّجاه المعاكس. أوصلت هذه الحقبة الصاخبة الأطراف المتناحرة إلى طريق مسدود، لم يكن بالإمكان تجاوزه إلّا بالوسائل العسكريّة الحاسمة التي كانت بيد منظّمة التحرير وسوريا. لم يكن الحلّ العسكريّ الذي سار به جنبلاط ممكناً بلا دعم منظّمة التحرير، ولم يكن التصدّي للتمدّد الفلسطينيّ متاحاً للأطراف المسيحيّة بلا دعم سوريا، التي كانت أبرز مناصري التنظيمات الفلسطينيّة بعد عام 1967.
في لبنان لاقى مشروع الدولة رفضاً، خصوصاً في الأوساط الداعمة للمشروع العربيّ الهاشميّ، إلى حين الاستقلال عام 1943 المتلازم مع الميثاق الوطنيّ
لكنّ ما يعنينا هنا أنّ الطائفيّة بحدّ ذاتها لم تكن السبب المباشر للانقسام الداخليّ، بل الخلاف السياسيّ على موقع لبنان ودوره في النزاع العربيّ – الإسرائيليّ بعد حرب 1967، مثلما كانت حال دول الطوق. في الأردن وقع الصدام العسكريّ، ولم يكن الكفاح المسلّح متاحاً داخل مصر وسوريا. باختصار، كانت بداية الانقسام سياسيّة ثمّ تحوّلت طائفيّة.
خلال سنوات الحرب انقسم الجيش وشُلّت مؤسّسات الدولة وتشرذم المجتمع طوائف ومذاهب ومناطق. لم تنتهِ الحرب بمؤتمر سلام أو بمصالحة وطنيّة بل باتّفاق اختلف عليه اللبنانيّون. كان يمكن لاتّفاق الطائف أن يشكّل توافقاً وطنيّاً لو جاء تنفيذه متكاملاً بدل انتهاكه. كانت بداية الطريق اغتيال الرئيس رينيه معوض بعد أيّام من “الطائف”، ونهايتها جاءت مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005. وبين الاغتيالين سيطرة سوريّة كاملة على كلّ مفاصل القرار واستهداف سياسيّ طاول المسيحيّين من مؤيّدي “الطائف” ومعارضيه. تمثّل المسلمون بقادتهم الأكثر شعبيّة، بينما كان مصير القيادات المسيحيّة الأكثر تمثيلاً السجن أو النفي أو الإقصاء.
بعد انتهاء الحرب، انتقلت البلاد من الطائفيّة إلى المذهبيّة وتمأسست الانقسامات ومعها محاصصة الهدر والفساد. محاولات رأب الصدع والحوار والوطنيّ سرعان ما جرفتها حرب 2006. ومع حرب الإسناد الأخيرة تفاقمت الانقسامات واستعادت إسرائيل الاحتلال.
بعد انتهاء الحرب، انتقلت البلاد من الطائفيّة إلى المذهبيّة وتمأسست الانقسامات ومعها محاصصة الهدر والفساد
بعد حرب 1967 انقسم اللبنانيّون في الموقف من السلاح الفلسطينيّ. أمّا اليوم فالانقسام بين جهة لبنانيّة مسلّحة محصّنة مذهبيّاً ومذاهب أخرى، وإلى ذلك أزمات اقتصاديّة واجتماعيّة غير مسبوقة في حجمها وتداعياتها. إنّها حالة لا شبيه لها في زمن السلم في لبنان.
إقرأ أيضاً: لبنان في الاتّجاه العربيّ المعاكس
للطائفيّة وظائف وتحوّلات: أداة حلّ لنزاع ارتبط “بالمسألة الشرقيّة” قبل نشوء الدولة، ثمّ وسيلة لتحقيق التمثيل بعد 1920، وصولاً إلى المطالبة بإلغائها بعدما بلغت أقصى مداها. وإذا كان التنوّع الطائفيّ مرتبطاً بالحرّيات وضوابط تحول دون قيام الدولة السلطويّة، فالإلغاء بلا دولة تسودها القوانين والعدالة خطوة باتّجاه المجهول. لذلك ليس المطلوب الشعارات بل إجراءات بناء الثقة في ممارسة السلطة عمليّاً، في حال كان المراد الإصلاح والانتقال إلى نموذج أفضل تنتفي فيه الحاجة إلى طائفيّة تحمي أو محاصصة يدفع ثمنها الناس.
