في بلدٍ اعتاد العيش على حافة الاستثناء، يتقدّم رئيس الحكومة نواف سلام المشهد السياسي بوصفه حارسًا لمعنى السيادة بكل أبعادها السياسية والثقافية والقانونية. فالسيادة في التجربة اللبنانية ليست مفهومًا مستقرًا، بل سؤالٌ معلّق: من يملك القرار؟ من يحتكر القوة؟ ومن يتكلم باسم الجماعة السياسية؟ في خضّم هذا الفراغ الطويل، حيث تآكلت الدولة وتناسلت الفواعل السياسية والتسلطية، يبرز حضور سلام، لا بوصفه صاحب خطاب مرتفع النبرة، بل حامل فكرة دولة تحاول أن تعود من المنفى إلى السياسة.
في لحظة لبنانية شديدة القسوة، يتقدّم الدكتور نواف إلى واجهة المشهد، لا باعتباره “مدير أزمة”، بل صاحب مشروع سيادي واضح المعالم، يقوم على إعادة تثبيت بديهيات الدولة التي تآكلت طويلًا: حصرية السلاح بيد السلطة الشرعية، واحتكار قرارَي الحرب والسلم ضمن المؤسسات الدستورية. هذا الموقف ليس طارئاً ولا ارتجالياً، بل امتداد لمسار فكري وقانوني وسياسي عبّر عنه قبل تولّيه رئاسة الحكومة، ويعبّر عنه اليوم بلهجة أكثر وضوحاً وحسماً.
اليوم، يتصدّر نواف سلام مشهد السياديين، لا لأنه الأكثر حدّة، بل لأنه الأكثر اتساقًا بين الفكرة والممارسة
اللافت في أدائه السياسي ليس فقط تموضعه الصريح إلى جانب حصرية السلاح، بل طريقته في مقاربة المسألة السيادية: هي مقاربة قانونية وفلسفية، تكاد تكون تأسيسية، تنظر إلى الدولة لا كغنيمة ولا كواجهة، بل كشرط إمكان للعيش المشترك.
الدولة بوصفها احتكارًا مشروعًا لا تسوية موقتة
في عمق خطاب نواف سلام تكمن مسألة احتكار العنف الشرعي، لا بوصفها مفهوماً أكاديمياً مستعاراً من “ماكس فيبر” فحسب، بل بوصفها الحدّ الفاصل بين الدولة واللادولة. فالدولة حين تفقد هذا الاحتكار لا تتحول إلى دولة ضعيفة فقط، بل إلى كيان رمزي تُدار باسمه سلطات أخرى.
سلام لا يساير هذا الواقع ولا يجمّله. ففي إطلالاته المتعددة، يكرّر أن قرار الحرب والسلم ليس تفصيلاً إجرائياً، بل جوهر السيادة نفسها. هذا الإصرار، في السياق اللبناني، ليس موقفاً إدارياً، بل فعل قطيعة معرفية مع ثقافة التعايش القسري بين الدولة ونقيضها.
منذ تولّيه رئاسة الحكومة، بدا واضحاً أنه لا يكتفي بـ “إدارة الممكن”، بل يسعى إلى توسيع حدوده. شدّد مرارًا على أن لا دولة من دون احتكار شرعي للسلاح، وأن أي قرار بالحرب أو السلم خارج المؤسسات الدستورية هو تقويض مباشر لمعنى الدولة. حين قال بوضوح إن لبنان لا يمكن أن يستعيد عافيته الاقتصادية ولا مكانته الدولية طالما أن قرار الحرب والسلم ليس بيد الدولة وحدها، لم يكن يقدّم توصيفاً تقنياً، بل إعلان تموضع سياسي في قلب الصراع حول معنى السيادة وحدودها.
ما يميّز خطاب سلام أنه لا يتعامل مع السيادة كشعار تعبوي أو رمز أخلاقي مجرّد، بل كمنظومة متكاملة: أمنية، دستورية، اقتصادية، وثقافية. فهو يربط بشكل منهجي بين حصرية السلاح واستعادة الثقة الداخلية والخارجية، وبين احتكار الدولة للعنف المشروع وقدرة لبنان على التفاوض والحصول على الدعم وإعادة بناء اقتصاده المنهك.
في عمق خطاب نواف سلام تكمن مسألة احتكار العنف الشرعي، لا بوصفها مفهوماً أكاديمياً مستعاراً من “ماكس فيبر” فحسب، بل بوصفها الحدّ الفاصل بين الدولة واللادولة
في هذا الربط، ينقل النقاش من ثنائية “المقاومة أو الخيانة” إلى سؤال الدولة الحديثة: من يقرّر؟ من يحاسب؟ ومن يتحمّل كلفة القرار؟ الدولة، في رؤيته، ليست جهاز قمع، بل نظام معنى: حين تضيع السيادة، يضيع معها الأفق.
بهذا المعنى، هو لا يتحدث عن نزع سلاح بقدر ما يتحدث عن إعادة بناء العقد السياسي. الدولة ليست ضد المجتمع، بل شرط تنظيمه. وهي ليست ضد التعدد، بل إطار حمايته. وهي أيضاً ليست ضد “المقاومة”، بل ضد تحولها أو تحويلها إلى سلطة دائمة خارج الشرعية.
“اتفاق الطائف”: النص الذي لم يُقرأ سياسياً
في دفاعه عن حصرية السلاح، يستعيد سلام اتفاق الطائف لا بوصفه تسوية تاريخية فقط، بل كنص سيادي جرى تعطيله باسم “ضرورة السلم الأهلي”. فالطائف وعد بدولةٍ واحدةٍ، وبقرارٍ واحدٍ، وبمرجعيةٍ واحدةٍ.
إعادة الاعتبار لهذا النص الدستوري ليست حنيناً، بل محاولة إعادة تأسيس: إعادة النظام إلى نصّه الأصلي قبل أن تتكاثر عليه الأعراف الاستثنائية وتتحول إلى قواعد.
لا يمكن قراءة إصراره المتكرر على معنى السيادة واحتكار الدولة للعنف كتصريح عابر. فنحن أمام محاولة واعية لإعادة إدخال “الدولة” إلى قلب السياسة اللبنانية، بعد أن جرى تفريغها تدريجياً لصالح فواعل سياسية مسلّحة راكمت أدواراً سيادية موازية.
اللافت في خطاب سلام ربطه المباشر بين السيادة والاقتصاد. فلا استثمار، ولا إنقاذ مالي، ولا ثقة دولية في ظل ازدواجية القرار الأمني. بهذا الربط، يُخرج السيادة من السجال الأيديولوجي ويضعها في قلب شروط الحياة اليومية للبنانيين. فحصرية السلاح ليست مطلباً نخبوياً، بل شرطًا لإعادة تشغيل الدولة كجهاز حماية وخدمات وتنمية.
صحيح أن هذا التموضع يعرّض الحكومة لمخاطر سياسية حقيقية، من تعطيل وضغوط وعزلة داخلية موقتة، لكن سلام يبدو مدركًا أن كلفة المواجهة أقل من كلفة استمرار الإنكار. التجربة اللبنانية أثبتت أن تأجيل الأسئلة الكبرى لا يلغيها، بل يراكم انفجاراتها.
إقرأ أيضاً: ثلاثة لبنانات تفاوض إسرائيل
مخاطرة محسوبة أم ضرورة تاريخية؟
اليوم، يتصدّر نواف سلام مشهد السياديين، لا لأنه الأكثر حدّة، بل لأنه الأكثر اتساقًا بين الفكرة والممارسة. قد لا ينجح مشروعه كاملًا، وقد تصطدم إرادته بوقائع أعند منه، لكنه أعاد وضع الدولة في مركز النقاش، وأخرج السيادة من خانة الشعارات إلى خانة السياسات.
في المحصلة، ما يقترحه نواف سلام يتجاوز السياسة اليومية. إنه مشروع لاستعادة الدولة بوصفها فعلًا أخلاقياً: مسؤولية، مساءلة، ووحدة قرار. السيادة هنا ليست ضد أحد، بل من أجل الجميع. وهي ليست إعلان حرب، بل إعلان دولة. وفي زمن تتآكل فيه الدولة اللبنانية، قد يكون هذا الإصرار الهادئ على المعنى هو أكثر الأفعال السياسية راديكالية.
لمتابعة الكاتب على X:
