ليس تفصيلاً سياسيّاً ولا ترتيباً تقنيّاً أن يتّجه لبنان، بعد تعيين السفير السابق سيمون كرم رئيساً للجنة “الميكانيزم”، إلى بحث تعيين عضو شيعيّ محسوب حتماً على رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، وعضو سنّيّ سيكون من حصّة رئيس مجلس الوزراء الدكتور نوّاف سلام. ما يبدو، للوهلة الأولى، محاولة “توازن” أو “طمأنة” داخليّة يكشف في العمق عن حقيقة أكثر إزعاجاً: لبنان لا يفاوض إسرائيل بصفته دولة واحدة، بل ثلاثة لبنانات متجاورة، متحفّظة ومليئة بالشكوك الأهليّة المتبادلة. في هذا المعنى، لا يصبح التفاوض نفسه مرآة دقيقة لبنية النظام السياسيّ اللبنانيّ بوصفه نظام محاصصة فحسب، بل وبما هو نظام ارتياب أهليّ مزمن يخشى فيه كلّ مكوّن أن يُمثَّل الآخر أكثر ممّا يُمثَّل الوطن.
حين جرى تعيين السفير كرم كان يُفترض نظريّاً أن يمثّل ذلك خطوة باتّجاه إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة التفاوضيّة: دولة تمتلك مؤسّسات، كفاءات دبلوماسيّة وسلسلة قرارات واضحة. لكنّ المسار اللاحق نسف هذا الافتراض بسرعة. فالحاجة إلى “إضافة” ممثّل شيعيّ وآخر سنّيّ ليسا جزءاً من مؤسّسة تفاوضيّة وطنيّة، بل من “حصص” سياسيّة وطائفيّة، تعني أمراً واحداً: لا ثقة بالسفير كرم وحده، ولا ثقة بفكرة أنّ ممثّلاً رسميّاً يمكن أن يتصرّف باسم الجميع. هنا لا يعود السؤال: هل كرم ذو كفاءة أم لا؟ بل: لماذا لا يُسمح لأيّ مسؤول، مهما بلغت خبرته، أن يكون لبنانيّاً فقط؟ ولماذا يُفترض دائماً أنّ هناك “لبنانَ ناقصاً” يحتاج إلى وصيّ طائفيّ يراقبه.
حين جرى تعيين السفير كرم كان يُفترض نظريّاً أن يمثّل ذلك خطوة باتّجاه إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة التفاوضيّة
تتجسّد في التمثيل المقترَح المفارقة اللبنانيّة بأوضح صورها. رئيس حكومة يريد أن يمثّل دولة حديثة، ورئيس مجلس نوّاب يمثّل تراكماً أهليّاً وسياسيّاً لا يثق بفكرة الدولة المجرّدة. كلاهما شرعيّ، كلاهما مأزوم وكلاهما يعكس انقسام الكيان على ذاته. لكنّ جمع هذين التصوّرين داخل فعل تفاوضيّ واحد لا ينتج دولة مركّبة، بل دولة مشلولة. فالدولة لا تُبنى بجمع المخاوف، بل بتجاوزها.
الارتياب الأهليّ يتقدّم على معنى الدّولة
ما يحدث في لبنان ليس جديداً ولا طارئاً. إنّه التعبير الأحدث عن المرض اللبنانيّ الأعمق: الارتياب الأهليّ. كلّ جماعة لبنانيّة تفترض أنّ الأخرى قد تساوم أو تخون أو تُقدّم تنازلاً باسم الجميع. ومن هنا، لا يصبح التمثيل الطائفيّ شرطاً مسبقاً لأيّ قرار حسّاس لحمايته، بل لتعطيله أو ضبطه. لا يُدار هذا الارتياب في العلن، بل يُقنّن في التعيينات، ويُشرعَن في اللجان، ويُترجم في هياكل الدولة نفسها. والنتيجة أنّ الدولة لا تُنتج ثقة، بل تُدار كآليّة لتوزيع شكوك الاجتماع الأهليّ بالتساوي.
ليس جوهر المسألة في شخص السفير كرم، بل في الدلالة الرمزيّة لتهميش الاكتفاء الذاتيّ لموقعه. فحين يُفترض برئيس لجنة تفاوض أن يُحاط بممثّلي “حصص” سياسيّة وطائفيّة، يعني ذلك أنّ الدولة لا تعترف بممثّليها بوصفهم تجسيداً لسيادتها، بل بوصفهم أطرافاً ناقصة تحتاج إلى أوصياء. هنا تنهار فكرة الدولة الحديثة عند عتبة الارتياب الأهليّ. فالدبلوماسي لا يُعامَل على أنّه نتاج لمؤسّسة، بل فرد يُراقَب. والسيادة لا تُمارَس، بل تُوزّع. وتفترض كلّ طائفة أنّ الأخرى قد تُقدِم على ما لا يجوز. وكلّ موقع سياسيّ يعتقد أنّ غيره قد يفاوض “أكثر ممّا ينبغي”. وهكذا لا يتحوّل التفاوض إلى أداة سياديّة بل إلى مساحة مراقبة داخليّة.
ما يحدث في لبنان ليس جديداً ولا طارئاً. إنّه التعبير الأحدث عن المرض اللبنانيّ الأعمق: الارتياب الأهليّ
الدّولة كائن قَلِق، والطّائفيّة نظام خوف
على مثال سوابق في العمل الدبلوماسيّ، فإنّ الدول التي تفاوض تفعل ذلك لأنّها موجودة. أمّا الكيانات التي تشكّ في وجودها، فتفاوض لكي تطمئنّ إلى أنّها لم تتفكّك بعد. لا يذهب لبنان، في لحظته الراهنة، إلى التفاوض مع إسرائيل بوصفه دولة مكتملة السيادة، بل بوصفه كائناً قَلِقاً، غير واثق من صوته، متردّداً في تمثيل ذاته ومضطرّاً إلى تفتيت سيادته كي يحتملها. وبهذا لم يعد التفاوض فعلاً سياديّاً واحداً، بل توزيع طائفيّ للخوف: مَن يضمن من؟ ومَن يراقب من؟ ومَن يمنع التفريط؟
في فلسفة الأب المؤسّس للفكر السياسيّ الحديث توماس هوبز، تولد الدولة من الخوف. لكنّ هذا الخوف لا يُترك سائلاً، بل يُنظَّم في كيان واحد يحتكر العنف والقرار، ويحوّل الرعب المتبادل بين الأفراد إلى أمان سياسيّ. والدولة عنده ليست فضيلة، بل ضرورة: ضرورة الخروج من حرب الجميع ضدّ الجميع. ولبنان لم ينجز هذه القطيعة. لقد ورث الخوف، لكنّه لم يُسلّمه إلى الدولة. بل احتفظت به الجماعات، نظّمته الطوائف وحوّلته إلى “رأس مال سياسيّ”. وبدلاً من دولة تحتكر الخوف، نشأت طوائف تحتكر الطمأنينة لأبنائها، وتترك الكيان في حالة قلق دائم.
الكائن القَلِق هو كائن لم يحسم علاقته بذاته، ولم يختَر وجوده الأصيل، فيعيش مُعلّقاً بين الإمكانات، خائفاً من القرار لأنّه يكشفه. ولبنان، بهذا المعنى، كيان غير أصيل. لم يختَر أن يكون دولة بالمعنى الحديث، ولم يستطِع أن يبقى جماعة تقليديّة متماسكة. علق بين الدولة والطائفة، بين السيادة والشراكة، بين الوطن والجماعات. ولذلك يخاف من كلّ قرار نهائيّ لأنّ القرار يعني انكشافاً. وليس التفاوض مع إسرائيل، هنا، حدثاً سياسيّاً فقط، بل لحظة وجوديّة خطِرة: لحظة يُطلب فيها من الكيان أن يتكلّم باسم نفسه، فيرتدّ إلى طوائفه، يجزّئ صوته ويستعيض عن القرار بالتوازن.
في الدولة المكتملة، الموظّف الكبير هو الدولة. صوته هو صوتها، وخياراته هي خياراتها. أمّا في لبنان فلا يُسمح لأيّ موقع أن يبلغ هذا الاكتمال. لا يُعامَل السفير كرم على أنّه تمثيل للسيادة، بل احتمال يجب تحييده. لا تُضاف إليه الأسماء لتقويته، بل لتقييده. لا ثقة بأنّ المعرفة وحدها تكفي، ولا بأنّ المؤسّسة تحمي ممثّلها. فالدولة هنا لا تثق بوظيفتها لأنّ الطائفة لم تتنازل عن حقّ المراقبة. هذه ليست مشكلة أفراد، بل مشكلة كيان لا يسمح لنفسه أن يتجسّد.
أن تفاوض ثلاثة لبنانات إسرائيل فهذا ليس تفصيلاً تقنيّاً، بل اعتراف غير معلن بأنّ لبنان لم ينجز بعدُ لحظة الدولة
17 أيّار 1983: الانقسام على معنى الدّولة
حين وُقّع اتّفاق 17 أيّار سنة 1983، انكشف لبنان على ذاته. لم يكن الانقسام بين مؤيّد ومعارض، بل بين تصوّرين للوجود السياسيّ للبنان: مسيحيّون رأوا في الاتّفاق خروجاً من الحرب نحو الدولة، ومسلمون رأوا فيه خروجاً من الصراع العربيّ نحو عزلة مشبوهة. كان السؤال أبسط وأخطر: هل لبنان دولة مستقلّة بذاتها، أم كيان وظيفيّ داخل صراع أكبر؟ هل يملك حقّ التفاوض وحده أم يحتاج إلى إذن الهويّة؟ سقط الاتّفاق، لكنّ السؤال بقي بلا جواب. جرى تأجيله لا حسمه. وكلّ تفاوض لاحق مع إسرائيل ليس إلّا إعادة تمثيل لتلك اللحظة المؤجّلة.
والحال هذه، لا يُنتج النظام الطائفيّ دولة ناقصة، بل يمنع قيام الدولة أصلاً لأنّه لا يسمح للخوف أن يُسلَّم إلى كيان واحد، ولا للقرار أن يُنتزع من الجماعات. ليست الطائفيّة تقاسماً للسلطة، بل تقاسم للقلق. تفترض كلّ طائفة أنّ الدولة، إذا اكتملت، ستُقصيها. لذلك تُبقي الدولة ضعيفة كي تبقى هي قويّة. وهكذا يتحوّل الوطن إلى مساحة إدارة مخاوف لا إلى مشروع سياسيّ.
ثلاثة لبنانات: الوجود المنقسم
عمليّاً، على طاولة التفاوض، لن يجلس وفد واحد، بل ثلاثة تصوّرات وجوديّة للبنان:
- لبنان أوّل يرى في التفاوض مع إسرائيل فعلاً خطِراً يتطلّب أقصى درجات الحذر لأنّ الذاكرة فيه أثقل من المستقبل، ولأنّ الصراع ليس ملفّاً بل هويّة.
- لبنان ثانٍ يريد أن يكون دولة طبيعيّة تفاوض كما تفاوض الدول، تفصل بين العداء السياسيّ وإدارة المصالح وتعتقد أنّ القانون الدوليّ يمكن أن يكون بديلاً عن السلاح والذاكرة.
- لبنان ثالث سياسيّ ـ تقنيّ يعرف كيف تُدار الملفّات، لكن لا يُسمح له أن يقرّر، بل أن يُنفّذ تحت المراقبة.
إقرأ أيضاً: رواية واحدة لا تبني وطناً… الحريري صانع “الاستقلال الثّاني”
هذه ليست اختلافات في الرأي، بل انقسامات في معنى الكيان. فالدولة التي لا تتّفق على سبب وجودها، لا يمكنها أن تتّفق على طريقة تفاوضها.
أن تفاوض ثلاثة لبنانات إسرائيل فهذا يعني أنّ لبنان لم يبلغ بعد لحظة الوجود الأصيل. السيادة قرار، والقرار مخاطرة، والمخاطرة تتطلّب كياناً يقبل أن يُحاسَب. ولبنان، حتّى الآن، يفضّل أن يتوازن على أن يقرّر، وأن يُطمئن طوائفه على أن يَثق بنفسه. ولذلك لن يبقى يفاوض ليحسم بل ليؤجّل. إنّه تفاوض كائنٍ قَلِق لم يجرؤ بعدُ على أن يكون دولة.
أن تفاوض ثلاثة لبنانات إسرائيل فهذا ليس تفصيلاً تقنيّاً، بل اعتراف غير معلن بأنّ لبنان لم ينجز بعدُ لحظة الدولة. ليست السيادة في عدد الممثّلين، بل في وحدة المعنى. وليس الوطن توازناً بين الطوائف، بل عقد ثقة يتقدّم على الهويّات الجزئيّة. وفي هذا الترتيب، ليس التفاوض علامة قوّة، بل علامة هشاشة. في هذا المعنى، لا يزال لبنان فكرة لم تُنجَز. وكلّ تفاوض يُدار بهذه الطريقة ليس خطوة نحو الدولة، بل تذكير مؤلم بأنّ الوطن، حتّى الآن، مؤجَّل.
لمتابعة الكاتب على X:
