مجلس السّلام في غزّة: يمنع انفجاراً… ولا يُحرِّر

مدة القراءة 5 د

لا شيء يشبه غزّة حين تُستعاد في اللغة. هي ليست مساحة على الخريطة بقدر ما هي ذاكرة تتنفّس، وجرح يرفض أن يندمل، وبرقٌ يتردّد في سماء الشرق منذ سبعة عقود. غزّة، في جوهرها، ليست قضيّةً تبحث عن حلّ بقدر ما هي معنى يبحث عن اعتراف. حين يُطرح مشروع مجلس السلام والقوّة الدوليّة، لا يتعلّق السؤال بآليّة انتشار ولا بتفويض أمميّ فحسب، بل بقدرة العالم على التعامل مع مكانٍ عاش طويلاً خارج النصوص الدبلوماسيّة وداخل النصّ الأكثر كثافة: نصّ الحياة تحت القصف.

 

 

لن تكون الصورة المتوقَّعة لقطاع غزّة في ظلّ وجود قوّة دوليّة صورة هدوء، بل صورة انتقال مضطرب، انتقال يشبه الوقوف على جسر نصفه في الحرب ونصفه في ما يُفترض أن يكون سلاماً. غزّة، التي تعلّمت أن توفّق بين حياتها اليوميّة وطائرات تحوم فوقها، لن تستيقظ فجأة على واقع ثابت. ستتعامل مع القوّة الدوليّة بحذر يشبه حذر من خرج لتوّه من حريق ويرى في كلّ يدٍ ممتدّة احتمالاً لإنقاذ أو لخديعة.

ستكون المرحلة الأولى مرهونة بالالتباس: قوّة دوليّة تحمل اسم الحماية، لكنّها ستجد نفسها في مواجهة مجتمع يرى الأمن بمنظار مختلف، مجتمع تداخل فيه المدنيّ بالمقاتل، والذاكرة بالسلاح، والنجاة بالكرامة. ستنشأ إدارة مدنيّة جديدة، لكنّها ستبدو شبحاً هادئاً وسط ضجيج القوى وتضارب التفويضات. لن تكون إدارة كاملة القدرة، بل أشبه بجسر مؤقّت فوق مياهٍ مضطربة.

لا شيء يشبه غزّة حين تُستعاد في اللغة. هي ليست مساحة على الخريطة بقدر ما هي ذاكرة تتنفّس، وجرح يرفض أن يندمل

مشروع منع انفجار جديد

ستدخل القوّة الدولية نفسها، مهما تجمّلت بخطاب إنسانيّ، بوعي مزدوج: حماية المدنيّين من جهة، وإعادة ضبط قواعد اللعبة الأمنيّة من جهة أخرى. الوظيفة الأخيرة هي التي ستُفهم باعتبارها قلب التفويض الحقيقيّ. لن تسمح الظروف، ولا الإرادات الكبرى، بأن تتحوّل إلى مشروع تحرّر، بل إلى مشروع منع انفجار جديد، وهذا بحدّ ذاته يضعها في مسافة دقيقة بين السكّان والمقاومة وإسرائيل.

المقاومة، بما هي أكثر من تشكيلات عسكريّة، لن تتلاشى. قد تدخل مرحلة كمون، لكنّها ستبقى حضوراً تحت السطح، إرثاً لا يمكن إزالته بقوّة خارجيّة. في لحظة انتقاليّة كتلك، ستكون القوّة الدوليّة مطالَبة بإدارة صراع ليس بينها وبين الفصائل فقط، بل بينها وبين نفسها أيضاً، لأنّ تعدّد الدول المشارِكة سيحوّل غزّة إلى ساحة تماسّ بين الإرادات العالميّة.

أمّا التغيير الجذري في المشهد، فسيظلّ مؤجّلاً ما لم يُعَد النظر في أصل الأزمة: الاحتلال. لا يمكن لقوّة دوليّة أن تعيد بناء مستقبلٍ ما دام الماضي الإسرائيليّ معلّقاً فوق الرؤوس. إنّ إعادة بناء المشهد تتطلّب ما هو أكبر من ضبط الأمن: تتطلّب إرادة دوليّة تواجه بنية الاحتلال بدل الالتفاف عليها، وتتطلّب توافقاً فلسطينيّاً مفقوداً منذ سنوات، وتحتاج إلى مشروع اقتصاديّ يعيد لقطاع غزّة القدرة على الحياة، لا البقاء فقط.

يبدأ التغيير من ترميم الإنسان قبل ترميم الخرسانة، ومن إعادة صياغة العلاقة بين الداخل الفلسطينيّ وامتداداته العربيّة، ومن الاعتراف بأنّ غزّة ليست حالة طارئة، بل عقدة سياسيّة أنتجها العالم وتركها تنزف.

المقاومة، بما هي أكثر من تشكيلات عسكريّة، لن تتلاشى. قد تدخل مرحلة كمون، لكنّها ستبقى حضوراً تحت السطح، إرثاً لا يمكن إزالته بقوّة خارجيّة

وسيط وحسب؟

من جهتها، لن تنظر إسرائيل بارتياح إلى قوّة دوليّة على حدودها المباشرة. ستسعى أوّلاً إلى كتابة تفويض القوّة بحبرها، بحيث تبقى هي الممسكة بالخيوط غير المرئيّة: المعابر، الأجواء، حركة البضائع وشروط الحركة. ستتظاهر بقبول الحلّ، لكنّها ستعمل على جعل القوّة وسيطاً ينفّذ ما تريده، لا جهة مستقلّة تفرض واقعاً جديداً. تخشى أن يتحوّل الوجود الدوليّ إلى سلطة موازية لهيمنتها الأمنيّة. مع ذلك، قبولها المبدئيّ بالمشروع، مهما حاولت إخفاء أسبابه، هو اعتراف ضمنيّ بأنّها لم تعُد قادرة على إنتاج “يوم ما بعد الحرب” بمفردها.

أمّا الدور العربيّ فسيكون ذلك الخطّ المتوتّر بين الواجب والقلق. العرب، سواء بمؤسّساتهم السياسيّة أو بثقلهم الإنسانيّ، هم الأكثر قدرة على فهم العقدة الغزّيّة. لكنّهم يواجهون تحدّي المشاركة من دون أن يُنظر إليهم طرفاً “ينوب عن الاحتلال”، ومن دون أن يتحوّل دورهم إلى وظيفة تقنيّة داخل مشروع دوليّ غربيّ. سيكون عليهم أن يوازنوا بين حماية المجتمع الغزّيّ من الفوضى وبين حماية القضيّة من الذوبان في التدابير الدوليّة.

العرب قادرون على إدارة ملفّ الإغاثة وإعادة الإعمار، وقادرون على أن يكونوا الجسر بين القوى الدوليّة والفلسطينيّين، لكنّ فاعليّتهم ستظلّ رهينة شرط واحد: أن تكون مشاركتهم جزءاً من مشروع سياسيّ لا يلغي الهويّة الفلسطينيّة ولا يطفئ شعلة المقاومة، بل يعيد توجيهها نحو مشروع وطنيّ جامع.

 إقرأ أيضاً: حكاية العفو… بين عرفات وكلينتون ونتنياهو

المجلس محطّة عابرة

في النهاية، ليس مجلس السلام والقوّة الدوليّة حلّاً نهائيّاً، بل محطّة عابرة في نهرٍ يتغيّر مجراه باستمرار. قد يوقفان النزيف، لكنّه نزيف طويل الجرح، لا يتوقّف بخطاب ولا بموظّفين دوليّين ولا بخيمة زرقاء تحمل شعار الأمم المتّحدة. غزّة، بكل ما فيها من شقاء وكرامة، تحتاج إلى أكثر من قوّة مراقبة: تحتاج إلى رؤية تعيد للحقّ معناه، وللسكّان حقّهم الطبيعيّ في حياة لا يظلّلونها بالقصف كلّما نهضوا من خراب.

ربّما كان السؤال الأعمق هو: هل يستطيع العالم أن يعيد تعريف نفسه من خلال غزّة؟ هل يمكن أن يولد من هذا المكان المُثقل بالرماد شكلٌ جديد من العدالة، أو على الأقلّ اعتراف متأخّر بأنّ الإنسان ليس رقماً في تقارير الأمم المتّحدة؟

قد لا تأتي الإجابة قريباً، لكنّ غزّة، كما في كلّ مرّة، تفرض على العالم أن ينظر إلى المرآة، وأن يرى صورته الحقيقيّة، لا صورته التي يحبّ أن يتخيّلها.

مواضيع ذات صلة

هل يستميل لبنان فرنسا وأميركا في التّفاوض؟

تتوالى الاستحقاقات على لبنان وما سينجم عنها في الأسابيع المقبلة. بين ثناياها وتواريخها  يختبر اللبنانيّون مراهنتَين على: – أن تصرّ واشنطن على تل أبيب كي…

ترامب “يستدعي” نتنياهو لفرض المرحلة الثّانية

لا يبدو أنّ المرحلة الثانية من خطّة دونالد ترامب ستنطلق قبل زيارة بنيامين نتنياهو لواشنطن، المتوقّعة في نهاية الشهر الحالي. من السذاجة الاعتقاد أنّ التأخير…

أجواء برّي: تعديل اتّفاق الهدنة… وقف النّار أوّلاً

أفسح تعيين مفاوض مدنيّ هو السفير السابق سيمون كرم رئيساً للوفد العسكريّ إلى اجتماعات لجنة “الميكانيزم” في المجال أمام البحث في حلول سياسيّة ممّا كان…

بهشلي – بارزاني: خطّان متوازيان… يلتقيان؟

شهدت العلاقات بين أنقرة وإربيل خلال الأعوام الأخيرة تقدّماً ملموساً تجاوز الكثير من العقبات، مدفوعةً بتقاطع المصالح وبناء قنوات ثقة متدرّجة. لكنّ  “حادثة شرناق” وضعت…