لبنان هو أرض الطوائف، لكنّ هذا لا يعني أنّه محكوم بالهيمنة الطائفيّة. هناك من يريده دولة مدنيّة، دولة تقوم على المواطنة، وليس على الانتماء المذهبيّ وحده. ما يظهر حاليّاً من خطاب يُمكن تسميته بـ”المسيحيّة السياسيّة” الجديدة ليس استمراراً ميكانيكيّاً لـ”المارونيّة السياسيّة” في الجمهوريّة الأولى، بل محاولة لإعادة إنتاج فكرة مفادها أنّ كلّ إنجاز في لبنان يعود حصراً إلى الدور “المسيحيّ السياسيّ”، وأنّ بقية المكوّنات ملحقات فقط.
تتّضح هذه السرديّة في مثالَين:
1- حضور رئيس الجمهوريّة العماد جوزف عون في مناسبتين بوسط بيروت (إطلاق ورشة أعمال تطوير وإعادة تأهيل ساحة الشهداء، المشاركة في مؤتمر بيروت1) وحديثه عن إعادة الإعمار، من دون أيّ تذكير بدور الرئيس الشهيد رفيق الحريري في جعل هذه المساحات رموزاً لـ”الاستقلال الثاني”.
2- خطاب رئيس حزب “القوّات اللبنانيّة” الدكتور سمير جعجع في مؤتمر حزبه العام الأوّل، المطوّل والمُحكم، الذي يغيب فيه ذكر الرئيس الحريري الأب الذي كان استشهاده العامل المركزيّ في خروج جعجع من السجن بعفوٍ عامٍّ سنة 2005.
لا يُعَدّ غياب اسم رفيق الحريري سقطات بروتوكوليّة ولا انتقاء موضوعات بحسب المناسبة. إنّه فعل سياسيّ، له جذوره وله مستوياته وله دلالته الأكثر خطورة، وهي أنّ بعض قوى “المسيحيّة السياسيّة” الجديدة، على تنوّعها وتبايناتها، ما تزال ترى في نفسها الأصل والرافعة والشرط والبوصلة لكلّ ما هو مُشرق في لبنان، وكأنّ كلّ ما أنجزه الآخرون هوامش على متنها، أو استكمال لمشروعها المفترض، أو نجاحات قامت على أساسها قبل أن تنحدر البلاد إلى أزماتها الكبرى.
كان الرجل في موته أكثر توحيداً ممّا كان في حياته، وجعل اللبنانيّين يقفون أمام مرآة واحدة، ومشهد جماعيّ
رفيق الحريري… السّياسيّ الذي أعاد تعريف السّياسة
من الصعب مقاربة أيّ نقاش جدّيّ في شأن لبنان الحاليّ من دون المرور برفيق الحريري. ليس فقط لأنّ الرجل اغتيل في لحظة مفصليّة وحمل رحيله ما يشبه شهادة الميلاد الصعبة لـ”الاستقلال الثاني”، بل لأنّه كان أوّل من أعاد إدخال فكرة الدولة الحديثة إلى الحياة اللبنانيّة بعد الحرب، حين كانت “الجمهوريّة الأولى” تعيد إنتاج أعطابها في قلب “الجمهوريّة الثانية”.
أعاد الحريري تعريف السياسة بمعناها اللبنانيّ العامّ. فجأة، صار هناك رجل دولة يفاوض العالم، ويستحضر الثقة، ويعيد إعمار العاصمة، ويعيد وصل لبنان بالاقتصاد الدوليّ. فجأة، صارت بيروت مدينةً تحاول أن تُشفى من دمارها العمرانيّ والنفسيّ.
لم تكن اللحظة المؤسِّسة في تاريخ لبنان الحديث مشروع الإعمار، بل الاغتيال. في 14 شباط من سنة 2005 انفجرت مع الحريري معادلة الوصاية السوريّة. آنذاك، انطلق أكبر حراك وطنيّ منذ عام 1943، وتكرّست بدايات “الاستقلال الثاني”.

كان الرجل في موته أكثر توحيداً ممّا كان في حياته، وجعل اللبنانيّين يقفون أمام مرآة واحدة، ومشهد جماعيّ: دولة مغدورة، وسلطة مهيمَن عليها، ووصاية تكتم أنفاس البلد واجتماع أهله السياسيّ. لم يكن الرجل رئيس حكومة فقط، بل كان لحظة إعادة تأسيس فعليّة: أعاد إدخال لغة الدولة إلى حياة سياسيّة كانت متروكة للفوضى والميليشيات والتسويات الباهتة.
هذه اللحظة هي التي تريد بعض “السرديّة المسيحيّة الجديدة” تجاوزها. يعيد ذِكرُ الحريري الاعتبار للحظة شراكة وطنيّة واسعة لم تكن فيها “المسيحيّة السياسيّة” صاحبة القرار وحدها. يذكّر بدور سُنّيّ مركزيّ في حماية المناصفة، وبتحوّلٍ كامل أنتج توازنات جديدة في البلاد.
إنّ ذكر الحريري ليس عاطفة ولا فولكلوراً، بل ضرورة لفهم لبنان كما هو
سرديّة قديمة تتجدّد: من “المارونيّة السّياسيّة” إلى “المسيحيّة السّياسيّة”
في “الجمهوريّة الأولى”، قامت “المارونيّة السياسيّة” على قاعدة أنّ المسيحيّين هم “جوهر” لبنان وشرطُ وجوده، فيما سائر المكوّنات ملحقةٌ بهذا الجوهر. عطّلت هذه الفكرة قدرة البلاد على بناء دولة عادلة، وكانت جزءاً من المأزق الذي انفجرت بسببه الحرب الأهليّة. لكنّ ما يراه اللبنانيّون اليوم هو محاولة “تعليب” النسخة القديمة في قالب جديد. لكنّ النسخة الجديدة من “المارونيّة السياسيّة” لا تعود بالصيغة القديمة، بل تستعيرها بتعبير أكثر مرونة هو “المسيحيّة السياسيّة”.
تُعيد هذه السرديّة احتكار الضوء، وتُعيد نَسب الإنجازات السياسيّة إلى الذات، وتعيد تفسير التاريخ بطريقة تجعل كلّ ما هو مضيء مسيحيّاً سياسيّاً، وكلّ ما هو وطنيّ نتاج دورٍ أحاديّ في مواجهة أدوار الآخرين.
لهذا السبب بالذات يصبح ذكر الحريري مربكاً. يُفكّك السرديّة. والحال هذه، كيف يمكن سرد مرحلة من دون الاعتراف بأنّ حماية المناصفة من خلال “وقّفنا العدّ”، كانت قراراً سنّيّاً؟ كيف يمكن تجاهل أنّ لحظة الاغتيال هي التي أطلقت المسار الذي خرج بموجبه جعجع من السجن؟
جملة تقوِّض الرّواية
لم يكن رفيق الحريري مسيحيّاً. لكنّه كان أكثر من حافظَ على الشراكة المسيحيّة في الدولة اللبنانيّة. في اللحظة التي كان فيها ميزان الديموغرافيا والسياسة يميل بقوّة، كان الرجل صاحبَ القرار
الذي قال: “وقّفنا العدّ”. منذ تلك اللحظة ثبتت المناصفة لا كعرفٍ هشّ، بل كمبدأ مُحصّن في قلب النظام السياسيّ.
أعاد الحريري تعريف السياسة بمعناها اللبنانيّ العامّ. فجأة، صار هناك رجل دولة يفاوض العالم، ويستحضر الثقة، ويعيد إعمار العاصمة
لم يكن قرار الحريري بهذه العبارة خطوة تكتيكيّة، بل كان تثبيتاً لركيزة وطنيّة تُنقذ صيغة المشاركة من تآكلٍ محتّم. لكنّ هذا القرار لا مكان له في السرد “المسيحيّ السياسيّ” الجديد. الإقرار بدور الحريري فيه يعني الإقرار بأنّ المسيحيّين السياسيّين لم يكونوا وحدهم حماة الصيغة، وأنّ لحظة إعادة إنتاج الدولة جاءت بشراكةٍ لا تريد السرديّة الجديدة الاعتراف بها. ليس إقصاء هذا التفصيل من الخطاب ثغرةً، إنّه “بتر سياسيّ” يجري استخدامه لإعادة كتابة التاريخ. وليس غياب هذا الاعتراف مسألة لغويّة، بل مسألة سياسيّة: سرديّة “الأصل” لا تحتمل الشركاء.
حين وقف سمير جعجع أمام مؤتمره العامّ الأوّل، كانت المناسبة سياسيّة بامتياز. كان يحتفل بالعودة إلى الحياة السياسيّة، وبإعادة بناء الحزب، وبإطلاق خطاب جديد في ظرف لبنانيّ معقّد. ومع ذلك، لم يأتِ على ذكر الحريري الذي سهّل استشهاده خروجه هو من السجن.
لا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ. يتناقض غياب الحريري عن الخطاب “القوّاتيّ” الأخير مع حقيقة أنّ جعجع نفسه يعرف، سياسيّاً وشخصيّاً، أنّ مناعة الوجود المسيحيّ في مؤسّسات الدولة لم تكن لتُستعاد لولا تثبيت المناصفة التي دافع عنها الحريري. مع ذلك، تُروى الحكاية اليوم من دون هذه الحقيقة.
مصير بلد في صراع السّرديّات
لا يُبنى لبنان بسرديّة واحدة ولا بذاكرةٍ مقصوصةٍ أو منقوصةٍ ولا بالإصرار على إعادة كتابة التاريخ بما يخدم “نظريّة الأصل” لدى أيّ فريق. ذلك أنّ ذكر الرئيس رفيق الحريري ليس ترفاً، ولا دفئاً عاطفيّاً، ولا انحيازاً لطرف سياسيّ. إنّه ضرورة لفهم لبنان كما هو، لا كما يريد بعض سياسيّيه رؤيته.
من الصعب مقاربة أيّ نقاش جدّيّ في شأن لبنان الحاليّ من دون المرور برفيق الحريري
البلد الذي اغتيل زعيمه الأكبر في وضح النهار، وأخرج جيش الوصاية بعد ثلاثة عقود، وعاش واحدة من أوسع هبّات اللبنانيّين في تاريخه، لا يمكن أن يتحوّل إلى لوحة بلا توقيع، أو إلى سرديّة بلا بطل، أو إلى ذاكرة بلا اسم.
لا يمكن كتابة تاريخ لبنان الحاليّ بذاكرة مقصوصة. لا يحجب تجاهل رفيق الحريري دوره، بل يحجب حقيقة البلد نفسه. “الاستقلال الثاني” ليس ملك فريق. وإعادة بناء العاصمة ليست ملك طائفة. والمناصفة ليست منّة من أحد. وخروج جعجع من السجن لم يكن فعلاً ذاتيّاً، بل جزء من لحظة سياسيّة صنعتها دماء الحريري. في هذا البلد أيضاً مآثر من قاتلوا وقَتلوا وقُتلوا في حروب مع وضدّ جيوش الفلسطينيّين والسوريّين والإسرائيليّين.
إقرأ أيضاً: رفيق الحريري: قتلوه مرتين
إنّ ذكر الحريري ليس عاطفة ولا فولكلوراً، بل ضرورة لفهم لبنان كما هو: بلد متعدّد ومتنوّع، لا يُختزل بسرديّة واحدة، ولا يستقيم إلّا بشراكة كاملة بين مكوّناته. كلّ محاولة لمحو هذه الحقيقة ليست سوى محاولة لكتابة تاريخ جديد… من دون ذاكرة.
لمتابعة الكاتب على X:
