سُنّة لبنان بعد الأسد: لماذا لا ينبت العشب؟

مدة القراءة 5 د

356 يوماً ليست مدّة قصيرة في تاريخ الحكم السوريّ. منذ الاستقلال حتّى وصول حافظ الأسد، مرّ على دمشق اثنا عشر رئيساً، بلغ معدّل أيّام حكمهم نحو 820 يوماً، فيما لم يُكمل ثلثهم سنتهم الأولى في السلطة.

 

تبدو الألعاب الناريّة التي أضاءت سماء المدن السوريّة أمس تعبيراً عن الشعور بالنجاح في “اختبار السنة الأولى” للرئيس أحمد الشرع، الذي اجتازها بهدوء وبراغماتيّة لافتَين. طوّر الرجل خطاباً سياسيّاً واضحاً ومباشراً، حظي بالدعم السعوديّ كقاعدة أساسيّة، ثمّ العربيّ – التركيّ في النطاق الأوسع، فالأميركيّ تالياً، على الرغم من التحدّيات الضخمة التي ما تزال قائمة أمام وحدة الكيان والسلاح، وأمام التغوّل الإسرائيليّ الذي قال صراحة إنّه لا يريد رؤية الشرع في مستقبل سوريا.

لا جدال في أنّ السنّيّة السوريّة تعيش نشوةً سياسيّة لم تعرفها منذ دخول الجنرال هنري غورو إلى دمشق عام 1920. تعكس هذه النشوةَ شعاراتٌ شعبيّة صاخبة من قبيل “دمشق لنا إلى يوم القيامة”، إلّا أنّها تتزامن مع محاولة جدّية لبلورة ذاتها داخل مؤسّسة الحكم بوعي سياسيّ مختلف: وعيٌ يحاذر أخطاء الجهاديّين والإسلاميّين، ويراهن على مركزيّة النموّ الاقتصاديّ في تشكيل وعي وطنيّ براغماتيّ، وعلى بناء علاقات مصالح مع الخارج، بعيداً عن الأيديولوجية ونهائيّة الصراعات، سواء مع إسرائيل أو حتّى مع إيران.

حيرة في لبنان

أمّا في لبنان فما تزال الحيرة سيّدة الموقف في قراءة ظاهرة الحكم الجديد في دمشق. يجد اللبنانيّون صعوبة في فهم البراغماتيّة التي ميّزت المجموعة الحاكمة، والتي أتاحت لها أن تكسب عقل توم بارّاك أكثر من سياسيّي لبنان مجتمعين، وأن تمكِّن الشرع، بذقنه الطويلة، من دخول البيت الأبيض وتبادل الهدايا مع دونالد ترامب.

كان الأسد يتوجّس من سُنّة لبنان أكثر من غيرهم، بينما كان صريحاً في الارتكاز على الشيعة كسندٍ لنفوذه

لا يخرج سُنّة لبنان من دائرة تلك الحيرة. يفرض صعود السُّنّة إلى الحكم في دمشق معطى سياسيّاً جديداً لم تعرفه الجغرافيا اللبنانيّة منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920. ذلك أنّ الحواضر السنّيّة في لبنان كانت تاريخيّاً أكثر المكوّنات التصاقاً بسوريا اقتصاديّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً، لكنّها لم تجد في الحالة السياسيّة السوريّة، في معظم مراحلها، نموذجاً جذّاباً للالتحاق به أو تلمّسه ظهيراً. ربّما هذا من الأسباب التي ساعدت في نجاح “الصيغة” بين بشارة الخوري ورياض الصلح عام 1943، بما مثّلته من خيار سنّيّ واضح للبنان وطناً نهائيّاً ومشروع شراكةٍ مع المسيحيّ.

سُنّة لبنان

لم تتغيّر الصورة كثيراً بعد ذلك. في ظلّ الانتداب، تمزّقت الجغرافيا السوريّة إلى دويلات طائفيّة. بعد الاستقلال، تعاقب على الحكم رهطٌ من الانقلابيّين، من جنرالات وقوميّين سوريّين. ربّما تُستثنى من ذلك مرحلة شكري القوّتلي الأولى حتّى انقلاب 1949، والمرحلة الثانية بعد الثورة الشعبيّة على أديب الشيشكلي عام 1955، وصولاً إلى الوحدة مع مصر عام 1958. غير أنّ المرجعيّة السياسيّة في المرحلة الناصريّة لم تكن دمشق، بل القاهرة، ولم تطرح الناصريّة نفسها مرجعاً سنّيّاً، بل كانت حراكاً عروبيّاً عابراً للطوائف، تفاعل معه الشيعة والدروز بحماسة لا تقلّ عن حماسة السنّة.

ثمّ جاء شتاء البعث الطويل، الذي اجتمع فيه على السُنّة قهرُ الديكتاتوريّة وقهرُ حكم الأقليّة. مع وصول حافظ الأسد، ثمّ بشّار، بدأت عمليّة معاكسة تماماً لهويّة السُّنّة في لبنان: لم يعد مسموحاً لهم بالتعريف عن أنفسهم ضمن فضاء مشرقيّ مفتوح، بل جرى ضغط هويّتهم السياسيّة إلى داخل النظام الطائفيّ اللبنانيّ.

يبقى أن يجد سُنّة لبنان حلّاً لقلقهم العميق. بينما يدخل السُّنّة الحكم في سوريا، يشعر كثيرون منهم أنّهم يخرجون منه في لبنان

التّوجّس من سنّة لبنان

كان الأسد يتوجّس من سُنّة لبنان أكثر من غيرهم، بينما كان صريحاً في الارتكاز على الشيعة كسندٍ لنفوذه. لا غرابة أنّ سوريا الأسد قتلت أو أبعدت عدداً من زعمائهم، وآخرهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري. بهذا المعنى، لم تكن سوريا يوماً ظهيراً للسُّنّة في لبنان، كما إيران لشيعة لبنان اليوم، أو كما كان السلاح الفلسطيني لسنّة السبعينيّات والثمانينيّات. من هنا، يبدو ظهور حكم سنّيّ في سوريا معطى سياسيّاً جديداً ومغايراً.

على أنّ المفارقة أنّ هذه “اليوفوريا” السوريّة تتزامن مع حضيض مستويات التشتّت والانكفاء في السنّيّة اللبنانيّة. على الرغم من مظاهر الاحتفاء بسقوط الأسد وقيام الحكم الجديد في بعض المناطق السنّيّة، تبقى تحت سقف الفكرة اللبنانيّة ونهائيّتها. ما يبعث على الارتياح أنّ الشرع نفسه يعلن بوضوح أنّه لا يريد دخول اللعبة اللبنانيّة الداخليّة، ولا أن يكون مصدر استقواء لطرف على آخر. يبدو سلوكه تجاه الدولة اللبنانيّة ترجمة عمليّة لذلك: لا ينسج علاقات خاصّة مع أحزاب وفعّاليّات، بل يتوجّه إلى الدولة حصراً، ويتعامل مع وزاراتها لحلّ الملفّات العالقة.

إقرأ أيضاً: سُنّة لبنان وهواية المعارك الخاسرة (1/3)

يبقى أن يجد سُنّة لبنان حلّاً لقلقهم العميق. بينما يدخل السُّنّة الحكم في سوريا، يشعر كثيرون منهم أنّهم يخرجون منه في لبنان. لم يُنتج التنافس الديمقراطيّ كتلة واحدة مؤثّرة في القرار السياسيّ. برز ذلك جليّاً في تشكيل الحكومة والتعيينات في مناصب الفئة الأولى، وفي التشكيلات العسكريّة والأمنيّة.

بعد وداع الزعامة الحريريّة العابرة، كتب زياد عيتاني: “دع العشب ينبت”. غير أنّ تجربة السنوات الأربع الماضية أظهرت أنّ النظام اللبنانيّ لا يصبر على نبات العشب، بل يأكله قبل أن ينبت.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@OAlladan

مواضيع ذات صلة

أجواء برّي: تعديل اتّفاق الهدنة… وقف النّار أوّلاً

أفسح تعيين مفاوض مدنيّ هو السفير السابق سيمون كرم رئيساً للوفد العسكريّ إلى اجتماعات لجنة “الميكانيزم” في المجال أمام البحث في حلول سياسيّة ممّا كان…

بهشلي – بارزاني: خطّان متوازيان… يلتقيان؟

شهدت العلاقات بين أنقرة وإربيل خلال الأعوام الأخيرة تقدّماً ملموساً تجاوز الكثير من العقبات، مدفوعةً بتقاطع المصالح وبناء قنوات ثقة متدرّجة. لكنّ  “حادثة شرناق” وضعت…

اللّبنانيّون يرفضون الانتحار… مع “الحزب”!

سؤال واحد يَختزل الموضوع اللبنانيّ كلّه، أي موضوع التخلّص من الاحتلال الإسرائيليّ المتجدّد لأراضٍ في الجنوب. خروج الاحتلال أولويّة الأولويّات: هل من سبيل إلى ذلك…

رسائل الغوطة: أسد تَلاعَب به شبلٌ!

لا تكشف الفيديوهات المسرّبة عن رحلة الرئيس السوريّ السابق بشّار الأسد إلى الغوطة في 20 نيسان 2018 عن مفاجأة تذهل السوريّين، موالين له أو معارضين….