لم يكن توقيف نوح زعيتر قبل أيّام بموجب مئات المذكّرات خبراً أمنيّاً عابراً. بدا كأنّه صدمة صغيرة في بلد اعتاد الصدمات، لكنّها هذه المرّة تمسّ واحداً من أكثر الأسماء حضوراً في المخيال الشعبيّ. هي لحظة بدا فيها المشهد أشبه بانفراط خيط طويل: سنوات من تراكم القوّة في الظلّ، ومن حضورٍ فاق طاقة الدولة على الاحتمال. كثيرون رأوا فيه إعلاناً متأخّراً بأنّ الدولة قرّرت، ولو للحظة، أن تستعيد ما فقدته. آخرون قالوا إنّ الدولة استفاقت على أطرافها وحدودها.
له من اسمه نصيب، بقدر ما له من الطوفان. هو نوح والسفينة والطوفان في آن واحد. فهو للبعض مخلّص، سفينته المخدّرات ومساعدات يقدّمها للناس، ولآخرين هو الطوفان نفسه الذي لن يبقي ولن يذر.
في البقاع الشماليّ نما نوح زعيتر على حواف الدولة. هناك، حيث يشعر المرء بأنّ البلاد تنسحب تدريجاً كلّما اتّجه شرقاً. طبيعة قاسية، قُرى مبعثرة، فقر يمرّ من جيل إلى جيل، وحدودٌ يعرفها أهلها كما يعرفون طرق قريتهم. لم تكن الدولة يوماً كاملة الحضور هنا، وهذا ما جعل الاقتصاد الموازي أكثر من نشاط جانبيّ تحوّل إلى وسيلة عيش، وأحياناً إلى قدَر.
وسط هذا المشهد، لم يظهر زعيتر من فراغ. كان ابن بيئة تعرف صعود “الزعيم المحلّي” حين تتراجع السلطة. لكنّه لم يكتفِ بدور الوسيط أو الحامي. راح يوسّع رقعة نفوذه، مدفوعاً بمزيج من الحاجات المحليّة وفراغ الدولة، حتّى وجد نفسه في موقع لا يشبه البدايات المتواضعة التي خرج منها.
في العقد الأخير، أصبح اسمه مرادفاً لملفّ المخدّرات في لبنان. وللمفارقة، لم يكن زعيتر حريصاً على التواري
من الظّلّ إلى الواجهة: صناعة هالة شخصيّة
في العقد الأخير، أصبح اسمه مرادفاً لملفّ المخدّرات في لبنان. وللمفارقة، لم يكن زعيتر حريصاً على التواري. كان يظهر كلّما سنحت الفرصة: فيديوهات، رسائل، محادثات مسرّبة ومواقف فاقعة تتحدّى الأجهزة الأمنيّة. شيئاً فشيئاً، بدا كأنّه يصنع لنفسه شخصيّة هجينة تجمع بين “زعامة محلّيّة” متساهلة مع الفقراء، وصورة رجلٍ يختبر الخطوط الحمر بلا خوف. هذه القدرة على التحكّم بسرديّة نفسه لم تكن عفويّة. كان يدرك أنّ الصورة قد توازي أحياناً قوّة السلاح.
الحدود اللبنانيّة ـ السوريّة، بخطوطها الجبليّة ومساربها الطينيّة، كانت أكثر من مسرح لعمليّات التهريب. هي فضاء كامل تُعاد صياغة علاقاته كلّ فترة، وفق إيقاع الحرب وانهيار الدولة وتغيّر اللاعبين الكبار. في قلب هذه المعادلات، بنى زعيتر موقعه. لم يكن ناقلاً أو وسيطاً وحسب، بل صار حلقة أساسيّة في تجارة تمتدّ من زراعة الحشيشة إلى تصنيع الكبتاغون، ومنها إلى شبكات إقليميّة أكبر من قدرة الدولة على التعامل معها بضربة واحدة.
حين نفّذت استخبارات الجيش العمليّة التي أفضت إلى توقيفه، كان العنصر المفاجئ لافتاً. لا ضجيج، ولا رسائل مسبقة، ولا مفاوضات طويلة. فقط عمليّة مُحكمة في المنطقة التي عرفها الرجل حجراً حجراً. ومع إعلان توقيفه، انهارت تلك الهالة التي حرص على بنائها: صورة الرجل الذي “لا يُمسّ”، وانكشفت، من بين ما انكشف، حقيقة يعرفها اللبنانيّون جيّداً: الدولة قادرة، لكنّ قدرتها متقطّعة، تأتي أحياناً بعد أن تكون الأضرار قد تراكمت.

لحظة توقيف تحمل أكثر ممّا تعلن
نوح زعيتر، بارون الحشيش، بابلو إسكوبار لبنان، وقائد “ألوية القلعة”… إلخ، تعدّدت الأسماء والمسمّى واحد. من تعلبايا البقاعيّة كانت الانطلاقة، وفي “الكنيسة” كانت النهاية، النهاية حتّى اللحظة. القبض على نوح زعيتر قبل يومين أثناء خروجه من منزله، يُعدّ نهايةً ما، نهاية مرحليّة أو مؤقّتة في انتظار الآتي، بغضّ النظر عمّا جرى وخلفيّاته.
لم يكن توقيف نوح زعيتر قبل أيّام بموجب مئات المذكّرات خبراً أمنيّاً عابراً. بدا كأنّه صدمة صغيرة في بلد اعتاد الصدمات
القبض على نوح تضعه فئة ضئيلة في إطار جهود الدولة اللبنانيّة لمكافحة المخدّرات، وعودتها إلى الحياة والوجود بعدما كانت طوال عقود رميماً. فئات أخرى تصنّف القبض عليه في أطر أخرى، منها على سبيل المثال إعادة العلاقات الأخويّة الممتازة مع الأشقّاء العرب، خاصّةً الخليجيّين، إذ يشكو الأخيرون من تهريب المخدّرات وحبوب الكبتاغون وغيرهما إلى بلادهم من لبنان وسوريا، ونوح هنا “ربّ الكار” كما يقال.
ثمّة من يضع توقيفه والقبض عليه في إطار لبنانيّ محلّيّ ضيّق، ويقرؤونه في سياق استهداف الطائفة الشيعيّة. بعد بنك الجمّال أو جمّال ترست بنك، والجناح العسكريّ لـ”الحزب” والأمين العامّ التاريخيّ السيّد حسن نصرالله، ثمّ السلاح أو “السكي لح لح”، فالهجوم على رئيس مجلس النوّاب ورئيس حركة أمل نبيه برّي، جاء دور نوح زعيتر. يقول هؤلاء إنّ الشيعة في لبنان لم يعد ينقصهم إلّا القبض على هيفاء وهبي، وتكتمل الحكاية، أو يكتمل الإطباق على الطائفة.
خيوط الحكاية
يرجع التضارب والتناقض عند الحديث عن توقيف نوح إلى نوح نفسه والناس من حوله. عند البعض هو “روبن هود” يأخذ من الأغنياء ليُطعم الفقراء، وهو “أبو الفقراء والطفّار” الذي يساعد المحتاجين وأهله وناسه ويحمي ويأوي الطفّار والمطلوبين منهم، وعند البعض الآخر هو الذي يبيع السموم ويقتل الشباب و”ينزع” الناشئة. وعند آخرين هو الذي يخرّب علاقات لبنان العربيّة والدوليّة.
في سيرته أكثر من مئة مذكّرة توقيف لبنانيّة حسب بيان الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة، وألف حسب محاميه، تضاف إلى مذكّرات توقيف دوليّة بسبب إدراجه على قوائم العقوبات الدوليّة إثر فرض الولايات المتّحدة وبريطانيا، عام 2023، عقوبات ضدّه لتقديمه “مساعدةً مادّيّةً” لعناصر من “الحزب”.
في البقاع الشماليّ نما نوح زعيتر على حواف الدولة. هناك، حيث يشعر المرء بأنّ البلاد تنسحب تدريجاً كلّما اتّجه شرقاً
عدد الاتّهامات الموجّهة إليه والأحكام الصادرة بحقّه ومذكّرات البحث والتحرّي والتوقيف المتعلّقة به يفوق عدد أيّام عمره حتّى اللحظة. فهو متّهم بترويج الحشيش، وتصنيع وتهريب حبوب الكبتاغون، وبدورٍ ويدٍ في معامل إنتاج المخدّرات، والاتّجار بالأسلحة، وتشكيل عصابات مسلّحة، وبروابط وثيقة مع جهات عسكريّة في سوريا، وتحديداً الفرقة الرابعة التي كان يقودها ماهر الأسد. يُتّهم أيضاً بتشكيل ميليشيا مسلّحة محلّية تُعرف بـ”ألوية القلعة”، وبإطلاق النار على عناصر الجيش ومراكز عسكريّة، بالإضافة إلى بيوت مدنيّين. يُتّهم أيضاً بالتورّط في خطف أشخاص مقابل فدية ماليّة.
تُضاف إلى التهم الموجّهة إليه أحكامٌ قضائيّة عدّة في سجلّه، منها حكم غيابيّ بالسجن المؤبّد في عام 2021، مع الأشغال الشاقّة لارتباطه بجرائم مخدّرات، وحكم غيابيّ آخر بالإعدام صدر في آذار 2024 لتشكيله عصابةً مسلّحةً وإطلاق النار على الجيش وقتل عرّيف فيه.
وفق ما أعلنه محاميه أشرف الموسوي، يواجه نوح زعيتر أكثر من 150 حكماً مؤبّداً صدرت بحقّه، بالإضافة إلى نحو ألف مذكّرة توقيف غيابيّة، لكنّ موكّله لا يعترف إلّا بكونه تاجر مخدّرات وينفي ما عدا ذلك من تأسيس ميليشيا واتّجار بالسلاح.
أمّا هو، أي نوح، ففي أكثر من لقاء إعلاميّ معه صرّح بأنّه مزارع فحسب، أي يزرع نبتة “القُنّب الهنديّ” أو حشيشة الكيف كما تُعرف، لا أكثر ولا أقلّ وينفي كلّ ما عدا ذلك. أمّا سبب دخوله هذا المجال، فيعزوه نوح إلى الأوضاع الصعبة في البقاع ونشأته هناك.
وفق ما أعلنه محاميه أشرف الموسوي، يواجه نوح زعيتر أكثر من 150 حكماً مؤبّداً صدرت بحقّه، بالإضافة إلى نحو ألف مذكّرة توقيف غيابيّة
خطوة على الطّريق
أيّاً كان السيناريو في ما يتعلّق بنوح زعيتر، يبقى أنّ توقيفه في هذه المرحلة دليل إضافيّ على عودة الأمن والمؤسّسات والدولة، الدولة المنشودة من اللبنانيّين عموماً، والبقاعيّين خصوصاً، وفي مقدَّمهم زارعو الحشيش. هو أيضاً خطوة تسجَّل للجيش والأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة، فالموقوف رقم صعب لطالما استفزّ اللبنانيّين بظهوره الإعلاميّ ولقاءاته التلفزيونيّة المصوّرة، وغالباً وفق شروطه وتبعاً لظروفه.
إقرأيضاً: ندوة المجلس الشّيعيّ: انقلابٌ على “الطّائف”؟
لم يُغلق توقيف نوح زعيتر الملفّ. على العكس، فتح أسئلة كثيرة. هل تملك الدولة القدرة على استكمال هذا المسار؟ هل ما جرى بدايةٌ لمرحلة جديدة، أم “استثناء” في سياق طويل من المساكنة بين مؤسّسات ضعيفة وسلطات موازية تنمو داخل هشاشتها؟ المفارقة أنّ سقوط زعيتر لا يمكن قراءته خارج البيئة التي أنتجته. فهو ليس حالة منفردة بقدر ما هو نتاج بنية كاملة ظلّت تتوسّع من دون مقاومة جدّيّة.
لمتابعة الكاتب على X:
