في ظلّ انهيار الدولة وتفكّك مؤسّساتها وتراجع الثقة الوطنيّة، تتجدّد في لبنان الدعوات إلى إعادة مناقشة اتّفاق الطائف. آخِرة هذه الدعوات جاءت من نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب، الذي وجّه إلى السفير السعوديّ في بيروت وليد البخاري دعوة للمشاركة في ندوة عن اتّفاق الطائف، ينظّمها المجلس مطلع الشهر المقبل في مقرّه في الحازميّة بعد الحوار السويسري في فندق المير أمين..
على الرغم من الطابع الحواريّ الذي يُراد لهذه الندوة، يأتي توقيتها وسياقها السياسي في التوقيت الخطأ، ويثيران تساؤلات جدّيّة: هل من المجدي مناقشة اتّفاق الطائف قبل قيام الدولة التي يُفترض أن تطبّقه؟ وهل من المنطقيّ البحث في “إصلاح النظام” في بلد لا تحتكر فيه الدولة السلاح ولا قرار الحرب والسلم، ذلك أنّ أيّ حوار في اتّفاق الطائف في ظلّ غياب الدولة هو نقاش في الفراغ، لأنّ العقد الاجتماعي لا يراجَع قبل قيام الكيان الذي يجسّده؟
“الطّائف”… وثيقة تأسيس لا ورقة مساومة
لم يكن اتّفاق الطائف تسوية ظرفيّة لإنهاء الحرب الأهليّة فحسب، بل وثيقة تأسيسيّة لإعادة بناء الدولة اللبنانيّة على قاعدة الشراكة الوطنيّة والتوازن بين مكوّناتها. فـ”الطائف” هو ما أعاد الاعتبار للدولة المركزيّة وأكّد وحدة الأرض والشعب والمؤسّسات وأنّ السلاح الشرعي الوحيد هو سلاح الجيش اللبناني. لكن بعد أكثر من ثلاثة عقود، لا يزال تنفيذ “الطائف” ناقصاً.
منذ زُعِم تطبيق اتّفاق الطائف، لم يُطبّق منه سوى بنود تتعلّق بتقاسم السلطة الطائفيّة، فيما أُهملت البنود الجوهريّة المتعلّقة بحصريّة السلاح وبسط سلطة الدولة. على ذلك، بقي لبنان أسير سلاح خارج الشرعيّة يفرض معادلاته الخاصّة ويمنع استكمال قيام الدولة. وهكذا تحوّل اتّفاق الطائف من إطار لتثبيت السيادة إلى نصّ يُستعمل ذريعة لتقاسم النفوذ، بينما جوهره الأصليّ كان قيام الدولة لا توازن الطوائف.
يصبح النقاش في اتّفاق الطائف قبل قيام الدولة نوعاً من الهروب من جوهر الأزمة
الدّولة أوّلاً… لا الدّستور
لا معنى لأيّ نقاش في النظام السياسيّ قبل استعادة الدولة بمعناها الكامل. ففي علم السياسة، الدولة ليست مجموعة مؤسّسات شكليّة، بل كيان يحتكر “العنف المشروع” ويمارس سلطته باسم القانون لأجل المصلحة العامّة. وحين يفقد هذا الكيان قدرته على احتكار القوّة، يتحوّل الدستور إلى حبر على ورق.
يصبح النقاش في اتّفاق الطائف قبل قيام الدولة نوعاً من الهروب من جوهر الأزمة. فالإصلاح لا يولد في فراغ، ولا من فراغ، ولا يُبنى في ظلّ سلاح خارج سلطة الدولة، لأنّ من يملك القوّة الفعليّة هو من يفرض قواعد اللعبة، مهما كان النصّ متوازناً. وفي حالة لبنان، من يمتلك السلاح هو “الحزب” ذو المرجعيّة الإيرانيّة، الذي لا يأمل عاقل الخلاص منه في ظلّ تعنّت “الثنائيّ”.
بالنسبة إلى اللبنانيّين وكلّ عاقل، ليس المطلب الحقيقيّ راهناً تعديل اتّفاق الطائف، بل تطبيقه: أي بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، وحصر السلاح في يد الجيش اللبنانيّ، وبناء مؤسّسات قادرة على ممارسة السيادة فعليّاً لا شكليّاً.
سوسيولوجيا الطّائفيّة واللّادولة
ليس الخلل اللبنانيّ سياسيّاً فحسب، بل اجتماعيّ وثقافيّ أيضاً. فالطوائف لا تزال تتعامل مع نفسها كجماعات مكتفية بذاتها، تمتلك رموزها وسلطاتها ومصادر قوّتها الخاصّة. هذا الواقع جعل الولاء الطائفيّ يسبق الولاء الوطنيّ، وأنتج دولة ضعيفة محكومة بالمحاصصة والزبائنيّة بدل المواطنة.
من منظور سوسيولوجيّ، لا يمكن أن تقوم دولة سيّدة في مجتمع لم يكتمل وعيه المدنيّ بعد. فالثقافة السياسيّة الطائفية تشرعن وجود السلاح خارج الدولة، وتبرّره بخطاب “الحماية والقلق من الآخر”، بينما الدولة لا يمكن أن تحمي أحداً إن لم تكن المرجع الوحيد “للعنف المشروع”. هكذا يصبح السلاح غير الشرعيّ، مهما كانت ذرائعه، عقبة وجوديّة أمام قيام الدولة لأنّ السيادة لا تتجزّأ ولا تتعدّد مصادرها.
لم يكن اتّفاق الطائف تسوية ظرفيّة لإنهاء الحرب الأهليّة فحسب، بل وثيقة تأسيسيّة لإعادة بناء الدولة اللبنانيّة
اختلال موازين القوى… وعطب النّظام
ليس سرّاً أنّ اختلال موازين القوى في لبنان، بفعل بقاء سلاح “الحزب” خارج إطار الشرعيّة، هو ما يمنع الدولة من استعادة دورها الطبيعي. فالسلاح الذي يُفترض أن يكون حكراً على المؤسّسات بات جزءاً من المعادلة السياسيّة الداخليّة، ومصدر تأثير في القرار الوطنيّ.

ما دامت القوّة موزّعة بين الدولة و”الحزب”، لا يمكن الحديث عن إصلاح ولا عن تطوير لـ”الطائف”، ذلك أنّ بقاء السلاح خارج سلطة الدولة يعني بقاء الدستور معلّقاً، ولا مساواة بين اللبنانيّين في ظلّ وجود “قوّة فوق الدولة”، ولا توازن حقيقيّاً في المؤسّسات ما دام فريقٌ يمتلك أدوات ضغط عسكريّة وسياسيّة تفوق سلطة القانون. وهذا هو جوهر الأزمة التي يعيشها لبنان منذ سنوات: عجز الدولة عن أن تكون دولة.
النّدوة… بين النّيّة والوظيفة
من حيث المبدأ، لا أحد يعارض النقاش الفكريّ أو السياسيّ في أيّ اتّفاق وطنيّ. لكن حين تأتي الدعوة إلى “ندوة عن الطائف” من مؤسّسة دينيّة، وفي ظلّ سلاح مهيمن على القرار الوطنيّ، يتجاوز السؤال النوايا إلى الوظيفة السياسيّة: هل الهدف هو إنعاش الحوار الوطنيّ أم تسويق مقاربة جديدة للسلطة في ظلّ اختلال التوازن السياديّ؟
يجب أن يتمّ النقاش في “الطائف” داخل مؤسّسات الدولة الشرعيّة، مجلس النوّاب وضمن حوار وطنيّ شامل تشارك فيه كلّ القوى تحت سقف القانون والدستور، لا في قاعات مغلقة تشرف عليها هيئات دينية أو سياسيّة أو دبلوماسيّة..
ليس “الطائف” وثيقة طائفة، بل عقد دولة. ومن يريده أساساً جديداً للنظام عليه أن يبدأ أوّلاً بإعادة الاعتراف بالدولة مرجعاً وحيداً للحوار والسيادة.
في ظلّ انهيار الدولة وتفكّك مؤسّساتها وتراجع الثقة الوطنيّة، تتجدّد في لبنان الدعوات إلى إعادة مناقشة اتّفاق الطائف
السّيادة قبل الإصلاح
يبدأ الإصلاح الحقيقيّ من استعادة الدولة لعناصر سيادتها، لا من تعديل النصوص. فلا إصلاحات سياسيّة وإداريّة واقتصاديّة إلّا بعد تطبيق اتّفاق الطائف وتبيان ثغراته الدستوريّة. وحين تحتكر الدولة وحدها السلاح وتفرض القانون بالتساوي على جميع أبنائها، يصبح من الطبيعي أن تناقش مؤسّساتها الدستوريّة تطوير النظام وفق المصلحة الوطنيّة. أمّا قبل ذلك فليست أيّ دعوة إلى تعديل الطائف سوى قناع سياسيّ لمواصلة تعطيل الدولة.
إنّ اتّفاق الطائف هو آخر ما بقي من مظلّة وطنيّة جامعة للّبنانيين. وكلّ محاولة لتجاوزه أو الالتفاف عليه في ظلّ غياب الدولة، مغامرة بكيان لبنان نفسه. فالإصلاح بلا سيادة وهم، والسيادة بلا حصريّة سلاح مستحيلة.
الدّولة أوّلاً
لا إصلاح قبل قيام الدولة، ولا دولة قبل أن تكون السيادة حصريّة في يدها. لهذا كلّ دعوة إلى مناقشة اتّفاق الطائف اليوم، في ظلّ اختلال موازين القوى وبقاء السلاح خارج المؤسّسات، هي نقاش في غير مكانه وزمانه.
ليس المدخل إلى الإصلاح تعديل الاتّفاق، بل تطبيقه. فاتّفاق الطائف نصّ سياديّ بامتياز، لا مشروع تسوية دائمة بين الطوائف. ولا هو اتّفاق هدنة بين حربين طائفيّتَين. وحين تُستعاد الدولة اللبنانيّة بكلّ مقوّماتها، الجيش الواحد، القرار الواحد، والسلاح الواحد، يصبح الحوار في تطوير النظام السياسيّ خطوة طبيعيّة في مسار نضج الدولة.
أمّا قبل ذلك فكلّ ما يُقال عن الإصلاح لا يعدو كونه ترفاً سياسيّاً في غير أوانه في ظلّ غياب الدولة، والجواب عليه بسيط وواضح: الدولة أوّلاً، والسيادة فوق الجميع.
إقرأ أيضاً: قبلان بمواجهة الرّاعي: السّلاح مقابل الدّولة
بناء على كلّ ما تقدّم، هل تكون الندوة الحواريّة مقدِّمة للانقلاب على “الطائف” غير المطبَّق حتّى اللحظة، أم محاولة ابتزاز يخوضها الثنائيّ باسم “المجلس الشيعي الأعلى” للاحتفاظ بالسلاح أو وضعه مقابل دستور جديد أو عقد اجتماعيّ يروق لأصحاب الندوة دون اللبنانيّين الآخرين؟
لمتابعة الكاتب على X:
