الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، وفق خطّة أبراهام التي ابتدعتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وثبّتتها إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، نجحت في تأسيس وإدامة علاقات ثنائية مع إسرائيل، إلا أنّها لم تؤثّر إيجابياً على القضية الفلسطينية. فمنذ الدخول من هذا الباب وإلى يومنا هذا وإلى أجل غير مسمّى، تتدهور الأمور على المسار الفلسطيني الإسرائيلي، وتتعقّد إن لم نقُل تستحيل فرص التسوية.
في زمن مدريد – أوسلو، أجمع أطراف النزاع على أنّ القضية الفلسطينية هي الأساس، وإذا ما رغب العالم في إحراز تسوية شرق أوسطية فهي البداية، ومن خلال حلّها يكون إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي تلقائياً وحتمياً.
انقلب نهج أبراهام على هذا الأساس، وبجرّة قلم على يد رئيس أميركي إشكاليّ، حدث ما يلي:
– منح الجولان لإسرائيل.
– اعترف بالقدس عاصمة لها.
– وعد الفلسطينيين بقرية صغيرة إلى جوارها اسمها “أبو ديس” تكون عاصمة لهم، ينطلق منها ممرّ إلى الأماكن المقدّسة للصلاة.
– فوق ذلك منح إسرائيل، وعلى خريطة محدّدة، أكثر من ثلاثين في المئة من أراضي الضفّة التي لا تتجاوز ستّة آلاف كيلومتر مربّع، مع اتصال بين ما حُدّد للفلسطينيين من أمكنة، إمّا “بخردقة” الأرض بالأنفاق، أو تفاديها بالجسورالمعلّقة.
– هكذا وفق ترامب ولد أغرب وأعجب كيان على وجه الأرض، تطوّع نتانياهو بالسماح لسكّانه بأن يسمّوه إمبراطورية لو أحبّوا.
في زمن مدريد – أوسلو، أجمع أطراف النزاع على أنّ القضية الفلسطينية هي الأساس، وإذا ما رغب العالم في إحراز تسوية شرق أوسطية فهي البداية، ومن خلال حلّها يكون إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي تلقائياً وحتمياً
اختُبر نهج أبراهام في منعطفات عديدة، وكانت النتيجة أنّ العلاقات الثنائية بكلّ الأغلفة الورقية الملوّنة التي لُفّت بها لم تغيّر من عمق العداء الشعبي للاحتلال الإسرائيلي. وكان ما جرى في مونديال قطر نموذجاً مختزلاً قويّ البلاغة والدلالة.
هذا ونهج أبراهام ما يزال في بداياته. أمّا في أوّل الطريق حيث السودان فتبيّن للمطبّعين أنّ الآمال التي عُلّقت على إسرائيل كممرّ إلى أميركا والغرب تبدّدت، وأنّ الترياق الذي سيأتي به التطبيع لم يصل ولن يصل!
بين التباهي والحسابات الغشيمة
أتحدّث عن عيّنات مجتزأة، لكنّها تحمل دلالات أوسع وأعمق، إلا أنّ العيّنة الأخيرة التي حدثت وكانت بطلتها ثم ضحيتها، وزيرة خارجية ليبيا. فقد قدّمت ما يمكن اعتباره صورة نهائية لفكرة أبراهام وتطبيقاتها.
ما حدث أظهر بوضوح شديد سقوط نهج التطبيع “بين التباهي.. والحسابات الغشيمة”. فالتباهي بالتطبيع والمبالغة في البناء عليه هما أساس الدعاية التي تقوم بها القوى المتصارعة على الحكم في إسرائيل من خلال اختراع إنجازات تحصد أصواتاً في كلّ يوم.
فها نحن أمام تصريح غير مؤكّد عن اقتراب التطبيع الكامل مع السعودية، وتصريحات عن أنّ أكثر من دولة عربية وإسلامية تقف في “الطابور” كي تطبّع. وبفعل التباهي والمزايدات الداخلية تعجّل وزير خارجية إسرائيل إيلي “كوهين” وأعلن اللقاء الذي عقده مع وزيرة خارجية ليبيا نجلا المنقوش والمفترض أن يكون سرّياً، ليسجّل لنفسه مأثرة تاريخية يظنّ أنّها تصوّره “فاتحاً لبلاد الفاتح”، وبفعلته هذه لا يدفع شيئاً بل يقبض كلّ شيء، ومن ضمنه مال من الخزينة الليبية لتعويض اليهود الليبيين عمّا تركوه وراءهم.
الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، وفق خطّة أبراهام التي ابتدعتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وثبّتتها إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، نجحت في تأسيس وإدامة علاقات ثنائية مع إسرائيل، إلا أنّها لم تؤثّر إيجابياً على القضية الفلسطينية
أجمع الشعب الليبي على رفض ما حدث، ولم يصدّق أحدٌ التبريرات الساذجة التي حاولت تصوير الأمر كما لو أنّه مجرّد لقاء عابر تمّ بالصدفة. وبذلك وقع من خطّط ونفّذ هذا اللقاء في شرّ “جهله وغشمنته” فانتهت الوزيرة بأن أُقيلت وغادرت البلاد، وانتهى التطبيع، وبارت بضاعة التباهي. فلم يعُد أحد في إسرائيل يصدّق ما يُقال على لسان السياسيين. ولم يعُد في ليبيا وغيرها من يستسهل تطبيعاً من أيّ نوع. فما حدث مع وزيرة الخارجية الليبية أثبت أنّ التطبيع أضحى بضاعة مسروقة، لا يعرف من فعل هذه السرقة كيف يُخفيها، ولا كيف يستفيد منها، بل إنّها من ألفها إلى يائها تجارة خاسرة لم تنتج غير فضيحة.
هذه اللعبة العابثة ما يزال معمولاً بها في أميركا، ولدى القطبين الرئيسيَّين الجمهوري والديمقراطي. والمثير للسخرية أنّ الأميركيين والإسرائيليين والمتواطئين معهما في ليبيا، اعتبروا الأمر مجرّد خطأ فنّي، إذ تمّ توجيه اللوم إلى كوهين على تسرّعه في الإعلان.
جرى تهريب الوزيرة إلى مكان آمن من العقاب، ولم يبقَ على السيد بلينكن الذي ما يزال يقود عربة أبراهام، إلّا أن يقول كما قالت العرب ذات هزيمة: “خسرنا معركة ولم نخسر حرباً”. وما كسره كوهين المتسرّع و “المنقوشة” الساذجة، يمكن جبره بمحاولة أخرى مع ليبيا أو مع غيرها. ولننتظر ما ستأتينا به الأيّام.
إقرأ أيضاً: لكي لا يكون المؤتمر الثامن… الأخير لـ”فتح”