لم تعد في لبنان أسرار. هناك عهد انتهى، هو عهد “حزب الله”. ليس معروفاً بعد هل هي نهاية عهد… أو نهاية البلد في الذكرى المئوية لإعلان “لبنان الكبير” من قصر الصنوبر في بيروت في أوّل أيلول 1920.
إقرأ أيضاً: ثمن الغطاء المسيحي لـ”الحزب”
ما كشفته الأسابيع القليلة الماضية أنّ الخلافات بين “حزب الله” و”التيّار الوطني الحر” التي طفت ليومين او ثلاثة، قبل بضعة أسابيع، لم تكن جدّية إطلاقاً. تبيّن أنّ زواج المتعة بين الجانبين مستمرّ. ما خرج على السطح، كان شعوراً حقيقياً بالتضايق من سلاح “حزب الله” لدى القاعدة العونية. ما لبث “حزب الله” أن أعاد الأمور إلى نصابها، أي إلى وجود طرف قويّ واحد مهيمن في البلد. هذا الطرف هو الحزب نفسه المتفاخر بأنّه لواء في “الحرس الثوري” الإيراني. صار الحزب يقرّر من هو رئيس الجمهورية المسيحي في لبنان، ومن هو رئيس الوزراء السنّي. ما يؤكّد ذلك أنّ البحث جارٍ على قدم وساق عن بديل من حسّان ديّاب يكون نسخة مطابقة له قدر المستطاع.
أقلّ ما يستطيع عمله ميشال عون هو الاستقالة. هذه الاستقالة هي الخدمة الوحيدة التي يستطيع تأديتها للبنان بدل التفكير في كيفية تفادي تحقيق دولي في الكارثة التي حلّت ببيروت
لم يعد في لبنان مكان لرجال أحرار، أو على الأصحّ لرجال دولة. لم يعد من مكان سوى لأجندة “حزب الله” الإيرانية التي تفرض في الوقت الحاضر بقاء حكومة “حزب الله” برئاسة حسّان دياب كحكومة تصريف أعمال، في انتظار نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية. هذا ما يريده “الحرس الثوري” في إيران، وهذا ما بات جزءاً من أجندة ميشال عون.
يحصل ذلك كلّه تحت عنوان عريض أسّست له وثيقة كنيسة مار مخايل في السادس من شباط 2006. إنّها وثيقة بين حسن نصرالله وميشال عون. هناك عنوان عريض من بندين لهذه الوثيقة، بعيداً عن كلّ ما ورد فيها من كلام عام لا علاقة له بالواقع.
يقضي البند الأوّل بتوفير غطاء مسيحي لسلاح ميليشيا مذهبية. يقضي البند الثاني بحماية سلاح “حزب الله” لشبق العونيين إلى السلطة بمعناها الضيّق، أي إطلاق يدهم في كلّ ما يسمح باستغلال موارد الدولة اللبنانية تحت عنوان “استعادة حقوق المسيحيين” التي يدّعون أنّ اتفاق الطائف حرمهم منها.
لم يتغيّر شيء منذ العام 2006. ما تغيّر أنّ ميشال عون صار رئيساً للجمهورية كي يتمكّن “حزب الله” من متابعة السير في أجندته. تبيّن أنّ كلّ كلام آخر عن رهان على ميشال عون ولعبه دور “بيضة القبّان” لدى وصوله إلى رئاسة الجمهورية ليس سوى رهان في غير محلّه. فميشال عون يريد رئاسة الجمهورية بغضّ النظر عمّا يحلّ بالجمهورية. من هذا المنطلق، يبدو الكلام الأخير للنائب بيار أبو عاصي من نوع الكلام الشديد الدقّة في وصفه لميشال عون. يقول النائب العضو في “القوات اللبنانية”، التي يتحمّل رئيسها سمير جعجع المسؤولية الأكبر في إيصال ميشال عون الى قصر بعبدا: “قصدت بغول الموت رئيس الجمهورية ميشال عون. ربّما سمعت منه أجمل الوعود والشعارات في تاريخ الجمهورية. لكننا لم نَرَ إلا الموت والدمار منذ دخوله العمل السياسي”.
ما يؤكّد صحّة كلام أبو عاصي موقف ميشال عون من الكارثة التي شهدها لبنان والمتمثّلة بالدمار الذي لحق ببيروت. لا يدرك رئيس الجمهورية والرئيس الفعلي للجمهورية، أي صهر ميشال عون، معنى انهيار النظام المصرفي اللبناني، ومعنى كارثة تفجير ميناء بيروت وأبعادها.
مرّة أخرى، يسعى ميشال عون إلى إخفاء حقيقة ما جرى. لا يشبه موقفه في 2020 سوى موقف إميل لحّود في 2005. أعطى اميل لحّود، وقتذاك، تعليمات بالتخلّص من مسرح الجريمة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري… وإعادة فتح الطريق أمام فندق سان جورج
لا يليق برئيس للجمهورية لعب دور المتفرّج على ما يجري في البلد رافضاً تحمّل مسؤولياته، بما في ذلك مسؤولية عدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع تفجير الميناء، على الرغم من التحذيرات التي تلقّاها. أقلّ ما يستطيع عمله ميشال عون هو الاستقالة. هذه الاستقالة هي الخدمة الوحيدة التي يستطيع تأديتها للبنان بدل التفكير في كيفية تفادي تحقيق دولي في الكارثة التي حلّت ببيروت.
مرّة أخرى، يسعى ميشال عون إلى إخفاء حقيقة ما جرى. لا يشبه موقفه في 2020 سوى موقف إميل لحّود في 2005. أعطى اميل لحّود، وقتذاك، تعليمات بالتخلّص من مسرح الجريمة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري… وإعادة فتح الطريق أمام فندق سان جورج.
لولا لجنة التحقيق الدولية، ولولا المحكمة الدولية، لما كان عرف يوماً انّ “حزب الله” وراء اغتيال رفيق الحريري، ولما كانت كشفت الظروف السياسية التي كانت بمثابة إطار للجريمة.
الأخطر من ذلك كلّه، أنّ رئيس الجمهورية الماروني ليس قادراً على النزول إلى الشارع لتفقّد أحوال الناس ومؤاساتهم، والتأكّد من أنّ الضربة التي تلقّتها المنطقة المسيحية في بيروت يصعب القيام منها.
قبل أيّام قليلة من مئوية “لبنان الكبير”، لا مكان لاحتفال كبير. لا مكان سوى للحزن والأسى في بلد يسير على وقع أجندة “حزب الله”، وهي أجندة إيرانية، فيما رئيس الجمهورية لا يفكّر سوى في أجندة خاصة به. يختزل هذه الأجندة، وصول جبران باسيل إلى قصر بعبدا في 2022 من جهة، واسترضاء “حزب الله” من جهة أخرى. هناك غياب لأيّ وعي لمعنى ما حلّ ببيروت وأبعاد الكارثة، والخطر الذي تمثّله على مستقبل الوجود المسيحي في لبنان…
بين أجندة “حزب الله” وأجندة ميشال عون، هناك خوف حقيقي على لبنان الذي يُخشى من أن تكون عملية تفجير الميناء، ومعها تدمير قسم من بيروت، أشبه بضربة قاضية لبلد ليس فيه، على مستوى القيادة، من يريد سماع نصيحة صديق مثل الرئيس إيمانويل ماكرون.
كلّ ما طالب به ماكرون، هو تشكيل حكومة تليق بلبنان، ولا تكون لا على قياس ميشال عون، ولا على قياس جبران باسيل!