ما تزال كلمة مفتي الجمهورية في ذكرى الهجرة قبل أيام، تتفاعل في تداعياتها وآثارها. فقد اعتبر فيها أنّ انقسام الكلمة والصفّ بين نوّاب السُّنّة، بحيث صاروا أربع فِرَق أو ستَّاً، أفقدهم المعنى السياسي والتأثير. ولا داعي لكلّ هذا التشرذم ما داموا في شبه إجماعٍ على الثوابت الوطنية في وثيقة الوفاق الوطني والدستور.
هناك الأزمات الداخلية المتتالية والمتوالية. وأولاها خلوُّ حاكميّة المصرف المركزي، وتهدُّد الليرة بالمزيد من الانهيار. وهناك مشكلة المجلس العسكري التي تتهدّد فعّالية الجيش. وهناك إقفال الدوائر العقارية ومرافق السير. وهناك الاضطراب المتصاعد في جنوب لبنان على مشارف التجديد للقوات الدولية. وهناك التقارير الدولية عن الأخطار في لبنان وعليه لتعذّر الإصلاح، وغياب رئيس الجمهورية، وشبه الانشلال لحكومة تصريف الأعمال. وهناك الطريق المسدود لحلّ مشكلة اللاجئين السوريين. وبسبب هذا الواقع المستحيل هدّدت مجموعة الخمس التي اجتمعت بالدوحة باتّخاذ إجراءات ضدّ من يعطّلون المسار الدستوري لانتخاب الرئيس. وهناك أوّلاً وأخيراً العزلة العربية والدولية المحيطة بلبنان.
إلى كلّ ذلك، هناك محيط لبنان المضطرب. فلدى العدوّ الإسرائيلي مشكلاته الداخلية التي تزيد من توتّره تجاه فلسطين وتجاه لبنان وتجاه سوريا. وهناك الاضطراب المتزايد بالداخل السوري بسبب الاشتباكات بين أطراف الصراع، وبينهم الأميركيون والروس.
تصاعدت في السنوات الأخيرة لدى السُّنّة نغمة أنّهم ضحايا، وأنّ الضربات تأتيهم من كلّ مكان. لكن على الرغم من ذلك، فإنّ عليهم مسؤوليّات، وهم ثلث الشعب اللبناني، وعماد من أعمدة الحياة الاقتصادية والاجتماعية
ما هو المطلوب من النواب السُنّة؟
كيف تستطيع وحدة نوّاب السُّنّة في البرلمان اللبناني أن تؤثّر؟ وسط الأزمات الداخلية وفي المحيط، لا بدّ من العمل على إعادة تكوين السلطة بالمسارعة إلى انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة فاعلة، وإجراء التعيينات الضرورية، وإجراء الإصلاحات التي تأخّرت عدّة سنوات. صحيح أنّ نوّاب السُّنّة يشكّلون أقلّ من رُبع نوّاب البرلمان، لكنّهم في حالة وحدتهم أو أكثريّتهم يمكن لهم أن يكونوا عنصراً مرجِّحاً ومسرِّعاً، وبخاصّةٍ كما سبق للمفتي أن قال أنّ السُّنّة شكّلوا دائماً لحمة وطنية في سياق العيش المشترك.
وسط الاضطراب الحاصل تتصاعد الراديكاليّات. هناك إصرار الثنائي الشيعي الموحَّد الصفّ على مسارٍ معيّنٍ، ومرشّحٍ معيّنٍ للرئاسة ربّما لن يختلف سلوكه كثيراً عن سلوك الرئيس السابق ميشال عون. وهناك القرف المسيحي من الأوضاع بحيث تتصاعد نغمة الفدرالية بين الشباب، لأنّه “يتعذّر العيش مع المسلمين”!
نعم، تصاعدت في السنوات الأخيرة لدى السُّنّة نغمة أنّهم ضحايا، وأنّ الضربات تأتيهم من كلّ مكان. لكن على الرغم من ذلك، فإنّ عليهم مسؤوليّات، وهم ثلث الشعب اللبناني، وعماد من أعمدة الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وما دام نوّابهم متفرّقين إلى هذا الحدّ، فإنّ إحساس “الأُضحويّة” لديهم سيزداد، وإحساس الافتراق لدى المسيحيين سيتفاقم. هناك أجيال جديدة في لبنان لا تعرف تاريخ مناعمنا بالعيش المشترك، وتعرف جيّداً تاريخ أزماتنا. وهناك الإحساس بفائض القوّة لدى الحزب المسلَّح، وتكليفه بتمثيل المصالح الإيرانية بالمنطقة بما يتجاوز لبنان وهمومه ومشكلاته، فلماذا سيسكت الآخرون على هذه الغلبة لغير صالحهم؟
الطبيعة تأبى الفراغ
الطبيعة تأبى الفراغ، ولأنّ السُّنّة يزداد غيابهم عن الحياة العامّة، فلا بدّ لأحدٍ أن يملأ الفراغ. وعندما تطغى طائفة أو يطغى فريق، فإنّ الآخرين سيتذمّرون ويتصرّفون بعصبيّة. والمصيبة الكبرى الآن انمساح المؤسّسات الدستورية وغير الدستورية، بحيث لا يبقى للّبنانيين شيءٌ يلوذون به.
اعتدت في السنوات العشر الأخيرة وعلى وقع الاضطراب في بعض البلدان العربية أن أُكرّر أنّ الناس كانوا يخافون من الدولة، وهم يخافون الآن عليها. نعم، المجتمع لا يقوم بدون دولة، والدولة الضعيفة بلبنان أصلاً توشك أن تنعدم.
نحن الآن في وضعٍ غير آمِنٍ لا بالداخل ولا مع الخارج. وعلى كلٍّ منّا يحسُّ بالمسؤولية أن يضيء شمعةً وسط هذا الظلام الدامس. ولذلك يكون علينا جميعاً أن نستمع إلى نداء المفتي، لأنّه نداء الحياة للمجتمع والدولة. هو نداء الصواب، ويشاركه فيه رجال الدين الكبار، بل وسائر أطياف المجتمع اللبناني.
إقرأ أيضاً: رسالة القيادة من دريان: وثيقة وطنيّة لإنقاذ لبنان
قال لي أحد النوّاب السُّنّة: على ماذا يريدنا سماحة المفتي أن نتّفق؟ فأجبت: على البديهيّات: مواصفات الرئيس المستندة إلى الثوابت الوطنية، والنشاط الفردي والجماعي الوازن، كما يناضل البرلمانيون في كلّ العالم، من أجل المجيء بالرئيس الذي ترونه أقرب إلى تلك المواصفات! هل تدري ماذا يحصل الآن ويُقال؟ إنّ نوّاب السُّنّة في أحد موقفين: إمّا أنّهم تابعون، وإمّا أنّهم لا موقف لهم، وبالتالي لا يقومون بتمثيل أولئك الذين انتخبوهم!
الاستجابة لنداء المفتي ضرورة وطنية، للتقدّم مع زملائكم من أجل إنقاذ لبنان وطناً ودولةً ومجتمعاً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@