عندما تتوقّف الحرب في غزة والاشتباكات على الحدود اللبنانية الجنوبية وتتحوّل المحادثات والأفكار الجارية في الكواليس الدبلوماسية إلى مفاوضات رسمية، سيكون هناك معايير وشروط إسرائيلية جديدة تأخذ بعين الاعتبار دروس صدمة “طوفان الأقصى”.
بالنسبة للعرب والفلسطينيين المفاوضات يجب أن تكون مبنيّة على مبدأ الأرض مقابل السلام، دولة فلسطينية قابلة للحياة ومستقبل القدس. أمّا إسرائيل فإنّ مقاربتها كانت دائماً متحرّكة. في جميع المفاوضات السابقة كانت إسرائيل تتشدّد في موضوع الترتيبات الأمنيّة وعناوين التطبيع رغبة منها بإقامة سلام “حارّ”. لم تلتزم في يوم من الأيام بمبدأ إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة، أي حلّ الدولتين. كان المفاوض الإسرائيلي يتذرّع بالرأي العامّ الداخلي وعدم استعداده “لهضم” أيّ تنازلات تعتبرها إسرائيل “أليمة”.
بعد التعبئة الشعبية التي تلت 7 أكتوبر تأييداً للحرب، فإنّ الرأي العام الإسرائيلي حالياً غير جاهز لتقديم أيّ “تنازلات أليمة” مقابل السلام
نموذج لبنان 2000
حين قرّرت إسرائيل الانسحاب أحاديّاً من لبنان في عام 2000 بقرار من رئيس الوزراء السابق إيهود باراك دون أيّ ترتيبات أو اتفاق مع لبنان، عبّر أحد المسؤولين العرب الذي كانت بلاده منخرطة في مفاوضات سلمية مع إسرائيل لنظيره الأميركي عن انتقاده الخطوة الإسرائيلية معاتباً: “ما هي الرسالة الإسرائيلية: المقاوم وليس المفاوض من يحرّر الأرض؟”.
حين قرّر رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل أرييل شارون الانسحاب من غزة أيضاً من دون اتفاق، مسؤول عربي آخر كرّر الموقف نفسه للإسرائيليين.
قبل ذلك كان هناك تفاهم نيسان بين إسرائيل والحزب الذي شكّل نقطة تحوّل، وهي استعداد إسرائيل للتوصّل إلى تفاهمات مع فصيل مسلّح بعد مواجهات عسكرية غير حاسمة أسّست لقواعد اشتباك جديدة.
تراجع الردع الإسرائيليّ
كلّ هذه المحطّات وما تخلّلها من مواجهات بعد اتفاقية أوسلو، أدّت إلى تراجع منطق الردع الإسرائيلي وشجّعت فصائل “المقاومة” على تصعيد عملياتها واستعداداتها وزادت من قناعتها بأنّها قادرة على أن تواجه إسرائيل عسكرياً وتحقّق انتصارات عجزت عنها الجيوش العربية الرسمية. في أحد خطاباته الأخيرة بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تحدّث الأمين العام للحزب عن أنّ إسرائيل لن “تُهزم بالضربة القاضية إنّما بالنقاط”. وهذه القراءة تصبّ تحديداً في الوعي الإسرائيلي المتجدّد، وستكون حاضرة في أيّ مفاوضات مستقبلية من خلال شروط جديدة، لكن بعد استخلاص العبر من “طوفان الأقصى”.
المسيّرات، الصواريخ ومشاركة فصائل في المنطقة من خارج دول المواجهة، كلّها تستلزم مقاربة جديدة لأمن إسرائيل. معظم الإجراءات الإسرائيلية سابقاً لم تنجح، وكان أصدقاء وحلفاء إسرائيل مُصيبين حين نصحوا تل أبيب بانتهاج سياسات مختلفة. الجدار الأمنيّ الفاصل لم يمنع الهجمات على العمق الإسرائيلي وصولاً إلى 7 أكتوبر، والانسحابات الأحاديّة لم تعزّز فرص السلام، والحديث عن العمق الاستراتيجي للحؤول دون الانسحاب أصبح لاغياً في ظلّ المسيّرات والصواريخ البالستية البعيدة المدى المتوافرة لدى الفصائل المقاوِمة.
غياب الجهوزيّة الإسرائيليّة
بعد التعبئة الشعبية التي تلت 7 أكتوبر تأييداً للحرب، فإنّ الرأي العام الإسرائيلي حالياً غير جاهز لتقديم أيّ “تنازلات أليمة” مقابل السلام. المفاوض اللبناني أو الفلسطيني وحتى الدول المعنيّة عليهم أن يتوقّعوا شروطاً ومنطقاً إسرائيلياً مستحدثاً في المفاوضات، وهناك ضرورة أن يتمّ تحديث الموقف المفاوض بحيث يأخذ في الحسبان تداعيات حرب غزة عسكرياً وعلى مستوى الرأي العام العالمي.
حرب أكتوبر 1973 وما تلاها من تحقيقات داخل إسرائيل لمعرفة من المسؤول عن التقصير وتوقّع الهجوم السوري- المصري، تطلّبت صدمة معاكسة كان بطلها أنور السادات حين زار القدس ممهّداً لمفاوضات كامب ديفيد واتفاقية السلام.
إقرأ أيضاً: طهران تبدأ مرحلة الحفاظ على المكتسبات
الوضع الإسرائيلي اليوم بعد عملية 7 أكتوبر بحاجة إلى صدمة معاكسة بحجم زيارة السادات للقدس، لكن لا يبدو أنّ أحداً في إسرائيل أو في المنطقة العربية يمتلك الثقل المعنوي للقيام بذلك.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@