مديح الذلّ… “الواطي”!

مدة القراءة 4 د


في كتابه “حكايات الأغاني” يروي فارس يواكيم كيف جرى تغيير كلام قصيدة “الأطلال” لإبراهيم ناجي واستبدال “لك إبطاء الدلال المنعم” بـ”لك إبطاء المذلّ المنعم”، مع أنّ إمكانية غناء “الدلال” لا تؤثر كثيراً على الإيقاع. لكن أحمد رامي اقترح هذا التعديل، ليستبدل الدلال بالذلّ. ورامي، على ما يقول يواكيم، خبير بالذلّ، “هو الذي كتب في أغنية “يللي كان يشجيك أنيني” لأم كلثوم: “عزّة جمالك فين، من غير ذليل يهواك”، ورأى في الذلّ “عزّة الجمال”. هو الذلّ إذاً، لا عزّ من دونه، بحسب رامي، وهو يحضر في غير أغنية لأم كلثوم وسواها، تارة كموضوع، وطوراً في سياقات موضوعات أخرى، وغالباً عندما يحضر الذلّ في الأغاني، يكون الحب مسبّبه، و”يضرب الحب شو بيذلّ” كما يقول كاظم الساهر.

إقرأ أيضاً: عنف.. تعذيب وذبح في أغاني الأطفال!

بيد أنّ أم كلثوم في بعض أغانيها تظهر عزّة نفس استثنائية إزاء الحبيب، فلا تفصح عن مكنوناتها أمامه وتداري “نار الحب” لأن “عزّة نفسي مانعاني” كما تغنّي في “حيّرت قلبي معاك”، والكلام للمفارقة لأحمد رامي، ولا تناقض لأن ذلّ الحب موجود، لكنّ أم كلثوم تمنعه من الظهور، وتمنع نفسها من الشكوى من نار حبها والكلام “عن اللي فقلبي”.

ولافت أنّ كلاماً كهذا كتبه رجل لتغنّيه امرأة، وقرّر عنها (في “الأطلال”) استبدال الدلال بالذلّ، وكتب لها في موضع آخر: “وعمري ما أشكي من حبك مهما غرامك لوّعني”. هل هناك “ذل” أشدّ مضاضة من هذا؟

كان نزار قباني أشهر من أذلّ المرأة في شعره، وقدّم النساء أسيرات و”عبدات”

لكن رامي على الغالب يتحدّث عن نفسه في إزاء حبه الذي بقي مكتوماً لأم كلثوم، مثله كمثل العاشق الصابر محمد القصبجي. وكلاهما ارتضى “الذل” في حبّ الست، كما في “مدام تحب بتنكر ليه” (كتبها رامي ولحّنها القصبجي): “وأنا بين يديك أشكي إليك وأشوف عينيك”. وهذه جملة تذكّر بأخرى من أغنية “عتاب” لفيروز تقول فيها “عوّدت قلبي من الطفولة عهواك/ وما تطلّعت هالعين إلا ع حماك”. وهي من كلمات الأخوين الرحباني (على الغالب كلمات عاصي وحده) ومعروف أنّ علاقة عاصي بفيروز كانت علاقة خضوع من فيروز لعاصي الذي كان ذكورياً وكثير الغيرة عليها، حتى إنه كان يضربها كما قال زياد الرحباني في مقابلة له مع جعفر عبد الكريم. وفي “عتاب” يكتب عاصي كلاماً يجعل من فيروز ضعيفة، ذليلة، خاضعة، لا تستطيع شيئاً سوى التمنّي: “يا ريت عن حبك المضني في رجوع”. وفي أغنية أخرى تقول فيروز: “اعملني مثل خاتم ذهب بأصبعك… يا حلو شو بخاف إني ضيعك”، تريد أن تكون خاتماً في يد الرجل، وكلّ ذلك لأنها تخاف أن تضيّعه! 

زياد الرحباني أعاد لأمه بعد وفاة والده بعضاً من عزّة نفسها في أكثر من أغنية تعبّر فيها عن تحرّر من الذكورية وتعلن: “مش فارقة معاي”، و”ضاق خلقي يا صبي”. وهذه الأغنية “لو الوقت يساع بتصير ما بتنذاع”، وفيها إضاءة على الغيرة المرضية لدى الحبيب (عاصي؟): “مبارح عالوصلة منبشلي غراضي ومفتّحلي علبي”. وبالعودة إلى أم كلثوم، لم يقتصر “الذل” على أحمد رامي، فقد غنّت من كلمات نصر الله دجاجي: “لي لذّة في ذلّتي وخضوعي/ وأحب بين يديك سفك دموعي”. وكتب لها بيرم التونسي: “يعجبني خضوعي إليه وأسامحه وهو ظالمني”. وتبرير بيرم أنّ “الحب كده”، وقد يكون على حقّ، ربما كان حقاً…  “كده”؟

زياد الرحباني أعاد لأمه بعد وفاة والده بعضاً من عزّة نفسها في أكثر من أغنية تعبّر فيها عن تحرّر من الذكورية

كان نزار قباني أشهر من أذلّ المرأة في شعره، وقدّم النساء أسيرات و”عبدات”: “من أجلك أعتقت نسائي وتركت التاريخ ورائي”، يقول في قصيدة “زيديني عشقاً” التي غنّاها كاظم الساهر. ويكتب في موضع آخر بلسان امرأة لتغنّيها نجاة الصغيرة: “سامحته وسألت عن أخباره وبكيت ساعات على قدميه”، وقد لحّنها محمد عبد الوهاب على هذا الأساس (وهناك نسخة بصوت عبد الوهاب يغنّيها “على قدميه”). ثم سرعان ما استُبدلت “قدميه” بـ”كتفيه”، لتفادي الاعتراضات على إذلال المرأة إلى حدّ وضعها بين أقدام الرجل الحبيب.

في إزاء كلّ هذا الذلّ، تحضرني أغنية شهيرة لوداد، ربما فيها انتقام لجميع زميلاتها من ذلّ الأحبة: “بتكن بكن، بتجّن بجنّ، حن عليّي بحنّ، جن عليّي بجنّ، مهما تعمل بعمل مثلك، عين بعين وسنّ بسنّ”!.

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…