ليست بغداد بل هي مدينة أخرى

مدة القراءة 5 د


قالت صديقتي التي غادرت البلاد منذ أكثر من ثلاثين سنة: “لم أتعرّف عليها. حتى إنّني لم أهتدِ إلى الطريق التي تقود إلى بيتنا الذي عشت فيه ثلاثين سنة”.

فقلت لها: “المكان يخون الزمن. نحن نخون المسافات التي مشيناها. في غفلة منّا تسقط ساعاتنا في العدم”.

أجابت: “كنتُ أعدّ الأمتار على أصابعي غير أنّني أخطأت العدّ فتساوت أمام عينيّ المناظر”. وهنا صمتُّ لأنّني نسيتُ. أنا الآخر نسيت. لكنّ النسيان لا يكفي لوصف الشعور بأنّك تنزلق إلى متاهة، لا نهاية لدروبها.

حلمت صديقتي بمدينة أخرى وهي تجوب شوارع مدينة لطالما حلمت بأن ترى عاطفتها وهي تتدلّى من أغصان أشجارها وتموء مع القطط خلف أسيجة البيوت وتفوح رائحتها من كؤوس أزهار الرازقي في الحدائق المنزلية وتمشي بخفّة وسط نظرات تسقط عليها من الشناشيل

في سيرة الطعام

لستُ الأوّل ولن أكون الأخير في سلالة التائهين. فإن كنتُ قد هبطت من القطار قبل المحطّة أكون شبيهاً بذلك الذي سيهبط من القطار بعد المحطّة. ولكنّ ما سيوجعنا أكثر أن لا تكون المحطّة موجودة. ذلك ما شعرت به صديقتي وهي تبحث عن قشّة علقت بأهدابها. تلك البلاد التي يُضحكها الموت ولا يبكيها.

قالت: “تحبّ الشعوب المهزومة الطعام”. هي مزحة تشبه الحقيقة. “للطعام ذاكرة تعيدنا إلى المطبخ. هناك نشوي ونسلق ونقلي ونطهو اللغة التي لم نزل نقفز بين درجات سلّمها. لا معنى مؤكّداً للمفردات خارج المطبخ”، قلت. فقالت: “كانت الأيدي وحدها هي التي تُرى. كما لو أنّها تظهر من الفراغ. صدّقت أنّ لكلّ يد لغة هي أشبه بقفّاز معدني”.

قلتُ: “تعبت تلك الأيادي من الهتاف وآن لها أن تُخفي تعبها حياء من الحقيقة. لا شيء ينتظرها سوى الفراغ”.

أساور من ذهب في الحدائق المنزليّة

حلمت صديقتي بمدينة أخرى وهي تجوب شوارع مدينة لطالما حلمت بأن ترى عاطفتها وهي تتدلّى من أغصان أشجارها وتموء مع القطط خلف أسيجة البيوت وتفوح رائحتها من كؤوس أزهار الرازقي في الحدائق المنزلية وتمشي بخفّة وسط نظرات تسقط عليها من الشناشيل. “ألم تكن هناك أمطار ورائحة التراب؟ ألم تعصف بغُددها الدمعيّة؟ ثمّ ألم تستخرج فراشة واحدة على الأقلّ أصباغ أجنحتها من دهشة عثورها على باب السرداب الذي يقود إلى مغارة علي بابا؟ هناك حيث نسينا كتبنا مفتوحة وأقلام الرصاص ترتجف في انتظار كلمة لم تُكتب بعد. كلمة كُتبت ومُحيت وكُتبت ومُحيت من غير أن تجد سبيلها إلى الورق. لا تزال الصفحة بيضاء، غير أنّها مكتظّة بالكلام. ألم يكن الصمت من ذهب؟”.

يصنع الخوف من بذور الشعير أساور من ذهب.

بين قدم تضحك وأخرى تبكي

تقول صديقتي: “كانت لنا بلاد”. وأنا أقول لنفسي: “تلك البلاد التي كانت لنا هي طائرة ورقية ضاعت بين الغيوم، يوم كانت لنا غيوم. سأقول لمدرّس العربيّة: “عيناك ساعتان لن تريا المطر|. وحي يُدهش أقول له لا تصرخ فالخليج لن يسمعك. أنت وأنا حافيان نمشي على الرمل”. “لم أرَ الرمل”، تقول وأنا أصدّقها، فالرمل لا يُرى. سيكون عاقلاً مَن يرى الرمل، ونحن مجانين صديقتي، ومَن يصدّق مجنوناً فهو مجنون. لقد ابتُلينا ببلاد، صناعة المجانين مهنتها. “صديقك أنا فكفّي عن تعذيبي”، قلتُ لها.

نحن لا نملك بنادق ولا سهاماً. كائنات فرضت على أنفسها الإقامة في قفص من أجل أن تستمرّ في العيش. يا لتعاسة المعنى. لقد سمّينا القفص بيتاً وكانت المدينة من حولنا تنوء بأقفاصها

سنعذّب السؤال الذي يعذّبنا. ما طول المسافة بين قدم تضحك وقدم تبكي؟ سوف نرسم خرائط لمدينة هدم الغزاة أسوارها، وصار أبناؤها يعبّئون آجرها الطينيّ في صناديق الهدايا الملوّنة. سنذهب إلى المتاحف لنختبر عاطفتنا، من مسلّة حمورابي في باريس إلى باب عشتار في برلين مسافة ثلاثة آلاف سنة من الألواح التي تضمّ حكاية شعب، علّمه النحل كيف ينجو من سمّه لينتج العسل.

تلك قارورة حبر يتعلّم فيها ريش الطيور كتابة الشعر. لا يصلح النبيذ إلا للقفز من سنة مائيّة إلى أخرى. تلك البلاد التي علّمتنا النسيان آخت بين الحبر والماء والنبيذ فجعلتنا نكتب الشعر ونحن نيام ونحلم بأميرات من زعفران فيما غبار الحرب يمشّط أهدابنا ونضع تحت رؤوسنا كتباً ناعمة لم تُكتب ونحن نتوسّد الحجر.

قالت صديقتي وهي تضحك متألّمة: “ضعت في الطريق إلى بيتي”.

في العودة إلى البيت

كان نوفاليس يؤكّد أنّ العودة إلى البيت هي جوهر السؤال الإنساني. ونحن لا نعود إلى بيوتنا يا نوح. نقر الهدهد باب سليمان وسأله عن القفص. “أيّ قفص؟”، سأله سليمان. ونحن لم نجرّب من معاني الوطن سوى معنى القفص. لو لم يكن هناك مقصّ العشب لانتشرت الأعشاب الضارّة. والقفص كان ملجأً من الرقابة. كنّا نظنّ ذلك ونضحك، لأنّ ميزان الخطأ والصواب كان مضطرباً. وفي كلّ الأحوال لم يكن هناك هدف لنصوّب عليه. فنحن لا نملك بنادق ولا سهاماً. كائنات فرضت على أنفسها الإقامة في قفص من أجل أن تستمرّ في العيش. يا لتعاسة المعنى. لقد سمّينا القفص بيتاً وكانت المدينة من حولنا تنوء بأقفاصها. نرفع أنخاب وصولنا أحياء من قفص إلى آخر. وهي تلك البلاد التي ذاكرتها من قشّ.

إقرأ أيضاً: عندما يتحوّل العراق إلى غنيمة حرب

ركبنا الأخشاب ونسجنا الخيوط وقسنا المسافة بين عظمة وأخرى لنوزّع الدموع في إيقاع موسيقي يشبه دلال زهرة عبّاد الشمس حين تكون وحيدة بين أشجار الدفلى. حطّ يداً على يد وساقاً على ساق وانتظر ملائكة اللغة وهم يحملون الإلهام بين السطور. ستكتب عن بلاد أسطورية. بلاد أُحيطت عاصمتها بحدود من نار. وحين أطفات عاطفتها تلك النار كانت ساعتها تدقّ في فرساي. بحثت عن تلك الساعة من أجل أن أغفر للرشيد خطأه حين ترك شارعه الوحيد في العالم نهباً للخراب. “لم تكن تلك عاصمة الرشيد”، قالت صديقتي. “ذهبتُ إلى مدينة أخرى”.

ما لم يكن يتوقّعه الرشيد أن يكثر البرامكة من حوله.

كم كنت منصفاً يا سيّدي في حربك.

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…