لماذا سلّم شارل رزق المحكمة الدولية إلى نصر الله؟

مدة القراءة 6 د


أعادنا حديث وزير العدل الأسبق شارل رزق في حلقة برنامج “صار الوقت” التي عرضت في 18 آب الجاري، إلى لحظة تأليف المحكمة الدولية، وأفهمنا بوضوح تام أنّ حزب الله بشخص أمينه العام نصر الله هو الذي أحكم سيطرته على المسار الذي ستسلكه، وضبط مسارها ورسم حدودها منذ البداية.

وصف رزق كلامه بالبسيط والعادي، وحرص على وضع اللقاءات التي كشف أنه كان يُجريها مع السيد حسن نصر الله، في باب لبننة موضوع المحكمة، ومنحها الطابع الوطني، ومنعها من أن تكون مدخلاً للفتنة والصراع، نافياً أن تكون هذه اللقاءات المتكرّرة موضوعاً تفاوضياً، بل سياقاً توافقياً، أظهر أنه كان يتمّ في جو من السرور والألفة والاستمتاع.

إقرأ أيضاً: هل يكفي قرار المحكمة لوقف سلاح الاغتيالات؟ ملاّط: خطأ جسيم في الحكم…

لم يجد القانوني أيّ حرج في الدفاع عن قانونية مثل هذا السلوك ولا في تبريره، بل قدّمه بوصفه إنجازاً يُحسب له. وكأنّ صيغة التوافق التي بدّدت الإطار القانوني والمؤسساتي، وتسبّبت في تفكيك كلّ المسارات القانونية في كلّ الحكومات المتعاقبة منذ العام 2005، قد تحوّلت في لحظة إلى ناظم أعلى لحكم القانون والمسارات التي يجب أن يتمّ من خلالها التعاطي مع موضوع بحجم المحكمة الدولية.

نخلص من ذلك إلى استنتاج مفاده أنّ المحكمة شُكّلت وفق ثنائية رزق – نصر الله لتحاكم الغائبين في الأساس. تالياً، إنّ السياق الذي يمكن أن يطال الحزب ككلّ أو يطال رئيس الجمهورية آنذاك إميل لحود أو الرئيس السوري بشار الأسد لم يكن ممكناً قانونياً

لا شك أنّ رزق “المنبهر” باجتماعاته المتكرّرة مع السيد حسن نصر الله، يعلم أنّ ما قام به يندرج تحت باب حماية الحزب والتغطية على الجريمة. وهو المسار الذي منع المحكمة من أن تشمل الأحزاب والمنظّمات أو أن تحاكم الرؤساء. وقد كان هذا الأمر هو الشرط الروسي للموافقة على تمريرها تحت طائلة استخدام الفيتو.

كرّس تتابع الأحداث أنّ المحكمة الدولية لن يمكنها سوى أن تحاكم مجموعة من الأفراد، وصفهم نصر الله مع صدور القرار الظنّي بالـ”قدّيسين”، في صيغة تتناسب مع التخريجات التي ساقها رزق لناحية “حرصه” على أن يضم مشروع المحكمة جزءاً ينسجم مع القانون اللبناني الذي يسمح بالمحاكمات الغيابية، بينما لا تتيح القوانين الدولية ذلك.

نخلص من ذلك إلى استنتاج مفاده أنّ المحكمة شُكّلت وفق ثنائية رزق – نصر الله لتحاكم الغائبين في الأساس. تالياً، إنّ السياق الذي يمكن أن يطال الحزب ككلّ أو يطال رئيس الجمهورية آنذاك إميل لحود أو الرئيس السوري بشار الأسد لم يكن ممكناً قانونياً. وقد أثبت الحزب أنه لا يبالي بالاتهام السياسي لأنه ببساطة يمكن التراجع عنه، وقد حدث ذلك مراراً وتكراراً مع كلّ الحكومات التي جمعته مع تيار المستقبل.

هذا المسار الذي فجّره رزق حالياً يدلّ في توقيته ومعناه، إذا ما ربطناه بالمسار الذي فتحته زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والكلام الذي صدر على لسان مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد هيل الذي يفيد بعدم ممانعة أميركا لحكومة توافقية، أنّ مناخاً تفاوضياً بدأ يتبلور، وليست إشاعة تسليم الحزب الإلهي بترسيم الحدود سوى أول الغيث.

ولعلّ في حرص تيار المستقبل على ضبط شارعه بعد المحكمة، واكتفاء جمهور حزب الله بهاشتاغات ومنشورات وبضع يافطات مستفزّة، وتأكيد الحزب على أنّ المحكمة لا تعنيه كما ورد على لسان النائب فضل الله، ما يؤكّد أنّ كلام رزق لم يكن خارج كلّ هذه السياقات، وأنه يحمل رسائل متعدّدة الاتجاهات.

تقول أبرز هذه الرسائل قبل كلّ شيء: إنّ القبول بإنشاء المحكمة ما كان ليتمّ دون موافقة نصر الله، وإنّ صيغتها الأساسية والاتفاقات التي قامت على أساسها خرجت من تحت عباءته. وتالياً، فإنّ صفتها كمحكمة دولية هي مجرّد صيغة وهمية، فهي ما كانت لتبصر النور لو لم تتمّ لبننتها.

هل يمكن لأيّ مرشح رئاسي أن يتفوّق على هذا الرجل الذي يبشّرنا بالعودة إلى منظومة ما قبل لحظة الـ 2005، وكأنّ لا شيء حدث إطلاقاً، وكأنّ الرئيس الحريري لم يقتل أو لم يوجد أساسا، وكأنّ الجيش السوري لم يزل قابعاً في ربوعنا وكأن 7 أيار لم يحدث

كذلك، فإنّ الكلام حول تمرير كلّ الحكومات السابقة لموازنة المحكمة، يعني في سياقه الحالي أنّ حزب الله كان شريكاً في تشريع المحكمة، وأنّ الصيغة التوافقية التي سمحت بتمويل المحكمة واستمرار عملها هي الصيغة التي يجب أن تستمرّ حالياً، خصوصاً أنها باتت تحظى بتغطية ماكرون الذي تجمعه علاقة جيدة مع إيران ومع الطرف المسيحي اللبناني ومع الرئيس سعد الحريري.

يدرج وزير العدل الأسبق مفاجأته في هذا السياق، وكأنّ بعض جمله جاءت كترجمة لكلام قاله سعد الحريري، لناحية التأكيد على جعل المحكمة عنصر تلاقٍ ما بين “تضحيتين” الأولى من الحزب والثانية من المستقبل، وليس عنصر خلاف. وتالياً، فإذا كانت المقايضات قد حكمت صيغة المحكمة الدولية منذ البداية، فما المانع حالياً من تدبير شؤون مقايضة جديدة قديمة بينها وبين حكومة توافقية يقودها الحريري الذي بحّ صوت رئيس المجلس النيابي نبيه بري وهو يقول إنّه لا يقبل سواه؟

من البديهي التأكيد أنّ المسار التوافقي سيشمل رئاسة الجمهورية كذلك، فهذه الحكومة الجديدة التي يتمّ التمهيد لها، والذي يبدو كلام رزق وكأنه بيانها الوزاري أو صكّ ولادتها وشرعنتها، ستشرف على الانتخابات النيابية المقبلة والتي ستمهّد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.

هل من ماروني صالح لتولّي مثل هذا المنصب أكثر من الرجل الذي كان يعطي السيد نصر الله مسودات المحكمة، والذي أسّس لتفاهمات سمحت بعدم المسّ بمكوّن أساسي قوي في البلد، وأبعدت كأس السمّ عن شفة الرئيس لحود والرئيس السوري بشار الأسد؟

هل يمكن لأيّ مرشح رئاسي أن يتفوّق على هذا الرجل الذي يبشّرنا بالعودة إلى منظومة ما قبل لحظة الـ 2005، وكأنّ لا شيء حدث إطلاقاً، وكأنّ الرئيس الحريري لم يقتل أو لم يوجد أساسا، وكأنّ الجيش السوري لم يزل قابعاً في ربوعنا وكأن 7 أيار لم يحدث.

نعيش حالياً في زمن انفجار المرفأ، ولكن جميع المطالبين بتحقيق دولي قد يصعب عليهم إيجاد وزير عدل كفؤ ومرشّح رئاسي، يرسل مسودّات قانون المحكمة الدولية إلى السيد نصرالله، ليرفضها إذا كانت تمسّ بالتوافق الوطني، أو يمنحها بركاته المشروطة بمنعها من محاكمة العهدين القويين في لبنان وسوريا أو ما نما على ضفافهما من جرائم حرب وفساد عابر للطوائف والحدود.    

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…