في صدر صالون بيتنا، وعلى الطربيزة الكبيرة في المنتصف، كانت أمي تضع صينية مليئة بعلب السجائر من كلّ الأشكال والأنواع والماركات للضيافة. هذه كانت عادة شائعة في مختلف البيوت اللبنانية حتى وقت متقدّم من نهاية الألفية الثانية. كانت السجائر تضيّف كالبونبون في البيوت. وكان الضيوف يخيّرون بين الأصناف. وطقس الضيافة نفسه كان معتمداً في مناسبات التعزية وفي الأفراح والأعراس. كانت السجائر تكريماً للضيف وإعلاءً من قيمته، وكانت الأصناف كلّما زادت في الصينية، دلّت أكثر على كرم المضيف وسخائه. كان السؤال الأول للضيوف: “شو بتحب تدخّن”. أو كانت أمي تقول: “قوم جيب الصينية ضيّف عمو دخان”. وكانت بعض العلب مفتوحة وتطلّ منها سجائر بأعقابها، ليتسنّى للضيف أن يستلّها بسرعة كمن ينتقي وردة ليقطفها من حديقة زهور.
كان التدخين مفخرة، وكان متعة ولذّة. كانت السيجارة جزءاً من هوية جيل. كانت استراحة محاربين في الحرب. هدنة. كانت وهم المعارضة مع نجاح واكيم. كانت ثورة مع سيجار شي جيفارا وفيديل كاسترو. وكانت الحكمة في سيجار وينستون شرشل. دخان السجائر شكّل عبق زمن كامل. كان رمي السيجارة بعد الانتهاء من تدخينها “فناً”. كان لإطفائها بالأحذية أبعاد. السيجارة كانت وسيلة تعذيب. يطفئها الجلاد في جسد السجين السياسي.
إقرأ أيضاً: مؤسفة روائح الكلمات في هذا المقال
كانت السيجارة أمنية أخيرة للمحكومين بالإعدام، أو لمن يحتضرون، يطلبونها كمجّة أخيرة يسحبون بها النفس الأخير، التنهيدة الأخيرة. كان دخانها روح السينما. كانت شهوة كلّ مراهق في القرن العشرين. كانت رمز رعاة البقر الأميركيين، وتبغها رمز الصمود والمقاومة في الجنوب. حضرت في الشعر والأغاني حدّ الاختناق. بول شاوول كتب ديواناً كاملاً في مديح السجائر عنونه “دفتر سيجارة”. في حوار أجريناه معه الشاعر مازن معروف وأنا دافع بول شاوول (ملحق “النهار” 2013) بحسرة عن السيجارة: “أمي كانت تحتضر، أشارت لي بيدها أنّها تريد سيجارة، لأنها كانت عاجزة عن الكلام. أعطيتها سيجارة ووضعتها في فمها، ومن دون أن أشعلها أخذتها وابتسمت ابتسامة الوداع. السيجارة لغز كبير جداً. العمّال لديهم سجائرهم، والطبقات الاجتماعية، ولدى ممثّلي السينما. السيجارة رمز الرجولة عند الرجال ورمز القوة لدى المرأة… السيجارة إلى انقراض. يمارسون على المدخنين الإرهاب بحجة أن السيجارة تتسبب بالسرطان، وهم يلوّثون العالم بالمصانع والأسلحة والحروب. يحمّلون السيجارة مسؤولية كل مآثم في العالم”.
لماذا بدأت السجائر تنطفئ شيئاً فشيئاً وبدأت القيمة الاجتماعية للتدخين تتراجع حتّى لتكاد تصبح عيباً؟
نزار قباني كتب قصائد كثيرة من وحي السيجارة: “صديقتي والسجائر”، “المدخنة الجميلة”، وضمّنها في كثير من قصائده، بعضها مغنّى كمثل “ماذا أقول له” (غناء نجاة الصغيرة، ألحان محمد عبد الوهاب) حينما يقول: “على المقاعد بعض من سجائره وفي الزوايا بقايا من بقاياه”. وعبد الوهاب غنى “الدنيا سيجارة وكاس”، فيما سيد درويش غنى للجوزة (الأرجيلة) وللحشيش (التحفجية). زياد الرحباني غنّى: “باقي مجّة صغيرة بآخر سيجارة لآخر الغدا، إذ بدك خدا”. وأدخل السجائر في أغاني فيروز: “حاجّي تنفّخ دخنة بوجّي، ولو بتدخّن لايت”.
لكن “شو عدا ما بدا”؟ لماذا بدأت السجائر تنطفئ شيئاً فشيئاً وبدأت القيمة الاجتماعية للتدخين تتراجع حتّى لتكاد تصبح عيباً؟ تذوي السيجارة ببطء، ودخانها يتلاشى شيئاً فشيئا لمصلحة السجائر الإلكترونية التي لا تسمن ولا تغني من جوع المدخّنين. فهل تراها تنطفئ نهائياً بعد كورونا؟
يُعتبر المدخّنون الفئة الأكثر عرضة للموت، بمعزل عن أعمارهم، إذا ما فتك بهم مرض الكورونا. ومنظمة الصحة العالمية تحذّر عبر نشراتها وموقعها الإلكتروني من ضرورة التوقف عن التدخين نهائياً (بما في ذلك السجائر الإلكترونية) لما يشكّله من خطر على من يصابون بالكورونا، فتكون رئاتهم معرّضة للتلف اذا استحكم بها الفايروس الخبيث.
كورونا يطفئ آخر سيجارة في زمن التدخين الآفل. يطعنها في الكرة الأرضية لإطفائها، كما لو كان الكوكب منفضة كبيرة تختنق بالأعقاب والرماد والدخان.