فرنسا “تخون” مونتسكيو: الانحلال الماكروني

مدة القراءة 11 د


عكست الأحداث الفرنسية الأخيرة هشاشة المؤسّسات السياسية في فرنسا. فقد أدخلت بلدَ الأنوار في عصر جديد من التناقضات الظلامية. أظهرت بوضوح الفوارق المجتمعية بين الفرنسيين، وأزمات اللاثقة بين أبناء الضواحي والسلطات المركزية الفرنسية، إضافة إلى حالة انعدام العدالة بين الدوائر الإدارية، وحتى في المدينة الواحدة. حتّى كادت الشوارع الباريسية أن تتحوّل إلى ما يشبه زواريب الفوضى الأهليّة المتحاربة.

– فما الذي يحصل في جمهورية مونتسكيو؟

– ماذا حلّ بعاصمة الشرائع ومدينة الأنوار؟

– هل انقلبت الدولة الفرنسية على قيم جمهوريّتها الخامسة “العدالة والأخوّة والحرّية”؟

قتلُ الشابّ نائل المرزوقي جريمة موصوفة

في البداية، ومن الإنصاف القول: يُعتبر تصرّف الشرطي مع الشابّ غير الممتثل للأوامر، والضحيّة، نائل المرزوقي، جريمة موصوفة ومشهودة بالقانون، بحسب ما أظهرته الفيديوهات المسجّلة. وهو ما يستوجب التدخّل السريع للقضاء، وأن تأخذ التحقيقات مجراها عبر الإجراءات القانونية وكشف كلّ الوقائع والحيثيّات بشفافيّة.

لا يمكن تبرير هذا الفعل أبداً، فهو سلوك غير طبيعي. لكن من الإنصاف أيضاً التأكيد على أنّ ردّة الفعل على القتل كذلك جاءت قويّة وغير متناسبة. فقد ظهرت بعض إشارات الأحداث الدائرة في فرنسا وكأنّها لم تكن ردّاً واستنكاراً لمقتل الشابّ فقط، أو اعتراضاً على الطريقة البشعة التي تعامل بها رجال إنفاذ القانون مع الواقعة، بل وكأنّ هناك استغلالاً واستثماراً سياسياً لهذه الحادثة بطريقة خبيثة من جهات مختلفة.

عكست الأحداث الفرنسية الأخيرة هشاشة المؤسّسات السياسية في فرنسا. فقد أدخلت بلدَ الأنوار في عصر جديد من التناقضات الظلامية

اللاتناسب بين الفعل وردّة الفعل

لكن أين يتّضح عدم التناسب الواقعيّ بين الفعل وردّة الفعل في ما يخصّ الحادثة؟

في فرنسا تحصل بشكل يوميّ الآلاف التوقيفات والكثير من حالات عدم الامتثال. وهو ما حصل مع المغدور والضحيّة الفرنسي. لكن تتمحور الإشكالية حول سلوك ضابط الأمن الذي ينعكس بشكل مباشر من خلال طريقة تفكيره وسرعة بديهته وتقديره للوقائع وكيفية استعماله السلاح، والتي تختلف من شخص لآخر. لذا هو تصرّف فردي بالحقيقة، ويجب أن لا تتحمّل مسؤوليّته كلّ المؤسّسة الأمنيّة التي أضحت تحت مجهر المؤسّسات القضائية المختصّة وباتت أمام امتحان غايته تصويب العمل بمهنيّة ومناسبة الأداء الوظيفي مع معايير المصلحة العامّة والاستقرار. وحسناً فعلت النيابة العامّة في توقيفها الجاني قيد التحقيق وادّعائها عليه.

فتحت هذه الحادثة الباب مرّة جديدة على ملفّ الضواحي الباريسية وقضايا الهجرة والتمييز العرقي بين الفرنسيين الأصليين والفرنسيين المجنّسين أو الذين من أصول أجنبية. لقد كشف مقتل الشاب غضباً أكبر من الحادث نفسه، على الرغم من دعوات عائلته إلى نبذ الكراهية ورفضها الاستثمار في السياسة والقيام بأعمال الشغب.

ثم عادت اتّهامات الإهمال والتهميش وعدم المساوة إلى الواجهة. بانت إلى العلن نقمة مجتمع الضواحي على الدولة المركزية والمؤسسات السلطوية الحاكمة. إذ يتّهم سكّان الأطراف الباريسية سلطة المركز ومجتمعاتهم بعدم المساواة وبسوء الإدارة الائتمانية السياسية والإدارية، مع التزايد في أرقام البطالة السكانيّة والتضخّم، إلى جانب الارتفاع المخيف في أرقام الفقر الاجتماعي والفقر الأسريّ، الذي زاد الطين بلّة. فيما يتّهمهم بعض عناصر السلطة السياسية بعدم اندماجهم ولاتناغمهم مع المجتمع الفرنسي وإحساسهم بكونهم غير فرنسيين.

الجرح.. والفجوة

كشفت هذه الحادثة عن ثلاثة أمور خطيرة:

أوّلاً: الجرح القديم التاريخي في علاقة الدولة الفرنسية التاريخية مع مستعمراتها السابقة.

ثانياً: الفجوة بين الدولة الفرنسية وأبناء مستعمراتها من المهاجرين حتى الجيلين الثالث والرابع منهم، وهم الذين ولدوا في فرنسا وأضحوا فرنسيين، لكنّهم مختلفون ويواجهون مشاكل كبيرة، من بينها العزلة والمواطنة وحتى الاندماج.

ثالثاً: إصابة الحكومة الفرنسية بالحيرة بسبب أنّ أكثر من ثلث الموقوفين هم من الشباب القاصرين، ولن يطبَّق قانون العقوبات عليهم وتشملهم معاملة خاصة وإجراءات قانونية سريعة. الأمر الذي شرّع الأبواب على الاختلاف والشرخ في التمكين الإنساني والمجتمعي بين سكّان الأطراف والضواحي وبين قاطني الدوائر الباريسية القريبة من المركز، وكأنّنا أمام فئتين من الدوائر الإدارية ضمن العاصمة الواحدة تختلفان في التربية والأولويّات والمكتسبات.

استُثمرت أزمات عديدة كأحداث الضواحي بطريقة عنصرية في ظاهرها، لأنّها أحداث مطواعة لهذا الاستخدام

مشكلة بين السلطة وسكّان الضواحي

تزايدت مشاكل السلطة مع الضواحي منذ عام 2017، وتحديداً عندما صدر القانون الذي أعطى رجال الشرطة والأمن السلطة التقديرية والمساحة الاستنسابية في استعمال السلاح كالمسدّسات، أثناء قيامهم بعملهم، ومنحهم الصفة التقريرية في ما يعرّضهم ويعرّض الأمن الأهليّ والانتظام العامّ للخطر. لذا الأولوية هي لتعديل قانون استعمال الشرطة الفرنسية القوّة، لجهة إلغاء “القوّة المفرطة”.

ارتكب رجل الشرطة الفرنسي خطأ جسيماً نتيجة الطريقة المغلوطة في تعامل رجال الأمن مع المتجاوزين أو المخالفين وغير الممتثلين للقوانين، والسبب هو القانون الحالي. الأمر الذي تسبّب بهذه الانتفاضة الملخِّصة لمجموعة من التراكمات المعمّرة والترسّبات المتجذّرة في سلبيّة العلاقة بين المؤسّسات الأمنية الفرنسية وسكّان الضواحي، وكأنّها شيطنة متبادلة.

ينبغي على رجال الشرطة، وهم رجال إنفاذ القانون، احترام القواعد القانونية والمهنية وعدم تجاوز حدود السلطة ولا التعدّي على الكرامات أثناء قيامهم بمهامّهم. يجب ألا ينجّروا وراء سلوكيات تعسّفية وأعمال جرمية. هنالك خيط رفيع يفصل بين عدم المهنيّة والتعسّف العنصرية والإجرام… خاصة أثناء تأدية الواجب والمهامّ الوظيفية باسم الدولة. ومن شأن ذلك أن يعرّض الدولة للإحراج والمساءلة وربّما يجنح بها إلى أمكنة غير مستحبّة.

استثمار الأزمات في السياسة

استُثمرت أزمات عديدة كأحداث الضواحي بطريقة عنصرية في ظاهرها، لأنّها أحداث مطواعة لهذا الاستخدام. لكي يظهر الأمر عنصرياً وشعبوياً حتى يخدم البعض في قضايا سياسية حول السلوك اتجاه الهجرة والمهاجرين، فيما هو بالحقيقة غير ذلك. ولو أنّ استثمار العنصرية جزء منه.

تكمن المشكلة في صراع حامٍ بين البيوت السياسية المؤسّساتية الفرنسية داخل أروقة ومراكز قرار الجمهورية التي مُنيت بالتناقضات. فلا اليمين بقي يميناً، ولا اليسار ظلّ على يساره، مع وجود خلافات كبيرة في داخل كلّ من المعسكرين الاشتراكي والجمهوري وفيما بينهما، وتزايد معدّلات المستقلّين والمتردّدين، تزامناً مع نموّ الروح القومية والانعزالية نتيجة تفاقم الأحداث وتواتر الأزمة المتنوّعة. وهو ما انعكس على هذه الأحداث وفاقم من تظهيرها وراكم في ردّة فعلها في أسلوب متعارض مع صلب المدرسة السياسية الفرنسية. فكانت كالقشّة التي كشفت عن الخلل والانحلال الذاتي وحتى الأخلاقي داخل دوائر الحكم في الجمهورية.

استمال الرئيس ماكرون كلّ المعتدلين من اليسار واليمين، من المعسكرات الاشتراكية والجمهورية والمستقلّين وغير الملتزمين. وصعد ماكرون بحركته الجديدة “فرنسا إلى الأمام” ونجح في انتخاباته الرئاسية الأولى بنهج مستقلّ مغاير لكلاسيكية الإدارة السياسية. لكنّه وقع بالفخّ والشرك الكبير. إذ لم يبقَ خارج تحالفاته إلا المتطرّفون والعنصريون من كلّ الأطراف والأحزاب، الذين يحاولون التضييق عليه في حكمه وإغراقه في المشاكل التي تضعف أيّ إدارة سياسية، من أجل إشغاله بمسائل حسّاسة لأغراض ومخطّطات تتعلّق بشكل الدولة والديمغرافيا وتركيبة المجتمع.

صراع بين أشخاص الدولة ومؤسّساتها

يتجلّى بوضوح من خلال هذه الحادثة الصراع الدفين بين أشخاص الدولة ورجالاتها في تغذية الروح السلبية في مؤسّساتها، وخاصة الأمنيّة، التي تفوح منها رائحة العنصرية والتمييز الفردي الموجّه الذي يعكّر صفو عمل وتركيبة المؤسّسات السياسية.

لا تستطيع فرنسا الهروب من تاريخها والتنكّر له. لذا يجب عليها أن تعالج بشكل سريع الخلل في البنية الاجتماعية والفكرية المؤسِّسة للكتلة السياسية للدولة

استعمال مصطلحات “الحرب الأهلية” والمفردات العنصرية على ألسنة زعماء متطرّفين كثر في السياسة الفرنسية، وخاصة من اليمين، لا يأتي من فراغ. ولا يُعتبر أبداً رواج عبارة “الفرنسي الأصليّ” و”الفرنسي المهاجر” صدفة محضة. وكأنّ الجاني والمرتكِب هنا ليس الشرطيّ وحده، بل النهج السلبي والعنصري داخل سلطة الدولة ومؤسّساتها التي بات العديد من عناصرها يتصرّفون بشكل فردي، وبطريقة عنصرية وغير عادلة. هم لا يدرون أنّهم يصوّبون بسلوكهم على الجمهورية ودستورها، ويحاصرون قيمها في الزاوية.

يجب أن لا يتعرّض أيّ مواطن للقتل إلا في حالات نصّ عليها القانون كحالة الدفاع المشروع عن النفس، وهي غير متوفّرة في هذه الواقعة. فالدولة الفرنسية ليست عنصرية، وإنّما تحتوي على أفراد عنصريين يشوّهون صورتها ومبادئها وتاريخها. وهو الأمر الذي يضع علامات استفهام كبيرة على مستقبل المؤسّسات الدستورية الضامنة للجمهورية في فرنسا.

لا تستطيع فرنسا الهروب من تاريخها والتنكّر له. لذا يجب عليها أن تعالج بشكل سريع الخلل في البنية الاجتماعية والفكرية المؤسِّسة للكتلة السياسية للدولة.

قد تكون الحادثة فرصة

على الرغم من كلّ الاجتماعات التقويمية، التي اعتبرت أنّ هذه الأحداث هي الأسوأ بعد حوادث وجولات “السترات الصفر”، وبغضّ النظر عن عدم اضطرار الحكومة الفرنسية إلى إعلان صريح عن “حالة طوارئ” واتخاذ تدابير أمنيّة معقّدة، وحتى لو انخفضت حدّتها نوعاً ما، وهدأت وتيرتها في الشارع، ستمرّ هذه الأحداث. فما حصل هو نتيجة ردّات فعل وتراكمات متجذّرة.

لم تنجح الحكومات الفرنسية في الوصول إلى حالة الاندماج التامّ مع دمج مجتمعات الضواحي والمناطق الشعبية والفقيرة في نسيجها الأصلي، كما فعلت كندا على سبيل المثال وألمانيا أيضاً. حتى مع أبناء الجيلين الثالث والرابع من الفرنسيين المهاجرين، والمولودين على الأرض الفرنسية. ويُعتبر هذا الأمر خطأ كبيراً واكبته خطوات وممارسات غير كافية للدولة في هذا الموضوع.

ربّما تكون هذه الحادثة فرصةً تحوّلها الحكومة الفرنسية لمصلحتها بأن تجد الحلول الجدّية التي يعرفها كلّ من ماكرون وإدارته بشكل كبير، وهو الذي دعا إلى الاندماج في عام 2017 والالتزام بالقيام بكلّ الإجراءات الضرورية لمساعدة أبناء المهاجرين والأحياء الصعبة. لكنه لم يقُم بذلك، على الرغم من إعداد أحد وزرائه جان لوي بورلو في عام 2018 تقريراً مهمّاً عن هذه المناطق والأحياء، وتصميمه خطة شاملة لمساعدتها وانتشالها، لكنّها لم تنفّذ نتيجة العديد من الخلافات ودخول البلاد نفق الأزمات وفيروس كورونا.

تتخوّف الحكومة الفرنسية من أحداث الشارع. لا تريد الانزلاق أكثر إلى الأسفل نحو المحظور. لكنّها تحاول في الوقت نفسه الاستفادة منها سياسياً واستثمارها، ولو بالحدّ الأدنى الضيّق للأمور، من خلال تشريعات تستفيد منها مستقبلاً في محطاتها الدستورية.

هل هناك وجود لنظريّة المؤامرة؟

بعيداً عن نظرية المؤامرة، قد يكون هناك خطة داخلية في شرايين الإدارة التنفيذية في الدولة الفرنسية بطريقة موجّهة. فعندما تتحرّك الأحداث، هناك من يتحرّك بوعي وفي سبيل قضية، وهنالك من يستثمر لمآرب مختلفة لعلّها تكون تمهيداً لجعلها ذريعة، وخاصة في موضوع المهاجرين. فقد تكون هذه الأحداث تبريراً واقعياً بطريقة شعبوية، من أجل الضغط على الحكومة وتمرير بعض التشريعات التي تعتبر قاسية لناحية قبول المهاجرين وتثبيتهم. إنّها نتيجة مباشرة، مقصودة كانت أم غير مقصودة، من أجل الانحراف عن المبادئ المثالية التي نهضت بالدولة. هي محصّلة الخلل في إدارة المؤسّسات الدستورية والتجاهل والتغافل عن كلّ الأعراف والمواثيق القانونية، التي قامت عليها الجمهورية الخامسة، لجهة الحرّية والمساواة والنموّ الحضري المتوازن والعادل.

إقرأ أيضاً: فرنسا: مزيد من الانقسامات وجولات من العنف

وضّحت هذه الواقعة الكثير من الأسباب الحسّاسة المعقّدة والمتشابكة الجذور، المتشعّبة والمتشبّعة بالنزعات السلبية والكراهية العشوائية والشعبوية. هي نتيجة الخلل في تطبيق قيم وأصول الجمهورية الفرنسية، والمسلّمات الثلاث للسيادة الفرنسية. كذلك بسبب سوء الأداء وانحراف جماعة القيادة السياسية مجتمعة عن المصلحة العامة العليا، واستعمال المبادئ الحيثية، التي قامت عليها الدولة في دستور 1958 بطرق ملتوية.

مواضيع ذات صلة

إيران تطلب السّلام… هل نطق ظريف بلسان الحرس؟

للتدخّل الروسي في سوريا قصّة رواها فيما بعد الأمين العامّ الراحل للحزب، ومختصرها أنّ قائد فيلق القدس في ذلك الحين، قاسم سليماني، سافر إلى موسكو…

المعارك في سوريا تمهّد للتّفاوض على إضعاف إيران؟

يرتسم الشرق الأوسط الجديد انطلاقاً من التطوّرات العسكرية الدراماتيكية في سوريا. يطرح تحريك الميدان السوري المفاجئ والمعقّد الأبعاد علامات استفهام حول صيرورة المواجهات الدائرة ومصير…

بعد الحرب.. هل من دروس تعلّمناها؟

“لو كنت تدرين ما ألقاه من شجنِ… لكنتِ أرفق من آسى ومن صفحَ غداة لوّحت بالآمال باسمة… لان الذي ثار وانقاد الذي جمحَ فالروض مهما…

هل يستمع الأسد إلى النّصائح العربيّة؟

هجوم 27 تشرين الثاني 2024 من إدلب على حلب، الذي أثبت ضعف نظام الأسد وتهالُكه، يعني أن لا حلّ في الأمد المنظور للحرب السورية الداخلية…