عن الولاء الديني للزعيم

مدة القراءة 4 د


أن تكون موالياً لسعد الحريري زعيم أكبر تيار سياسي سني راهن، فهو أمر طبيعي، وكذلك أن تكون معارضاً له. فالحريري وإن كان يتزعّم الكتلة الشعبية السنية الأوسع نسبياً، بهذه الدرجة أو تلك، مع لحاظ النزيف المتواصل في شعبيته، في محطات أساسية من مسيرته السياسية ولا سيما إبان 17 تشرين الأول، إلا أنه يعلن انحيازه إلى اللاطائفية، وتياره غير مقتصر على طائفة واحدة، بل لا يدّعي أنه تيار سني على الإطلاق، وخطابات التيار سياسياً وإعلامياً، وحتى ممارساته الاجتماعية، لا توحي بأن تيار المستقبل يعبّر بصدق عن المزاج السني العميق، ما عدا ما يجري في مناسبات أو أحداث، مما قد يستدعي اللجوء إلى العصبية لتحقيق أهداف آنية.

لكن أن يكون ولاؤك لسعد الحريري من باب الواجب الديني، فهذا مما يصيب المنظومة الذهنية كلها بالاضطراب ويحتّم المراجعة من نقطة الصفر: ابتداء، أن تكون كمسلم سني موالياً لسعد الحريري على الوجه الديني، فهذا يرجع أساساً إلى تصوّر ما لدى المعتقِد بطبيعة هذا الولاء، مما يخالف شخصية الزعيم، وطبيعة تياره السياسي، بل مما يتناقض مع جوهر النظام السياسي اللبناني. وهذا ما يقتضي توضيحه ونفي الالتباس العالق في ذهن زاعم الولاء الديني وكشف أبعاده غير القليلة، والتي قد تغيب عن خاطر ذاك المتحمّس. فماذا يعني أن تكون موالياً دينياً لسعد الحريري؟

من غير المحبّذ موالاة العلماء للأمراء بالمعنى المتعارف عليه في التراث الإسلامي، فكيف يكون الحال في أيامنا التي تشتد فيها الالتباسات وتتداخل

للمسألة وجهان لا ثالث لهما. فمن وجه أول، يقصد القاضي الطرابلسي عبد المنعم الغزاوي الداعي إلى هذا الالتزام الديني بالزعيم في بيت الوسط، أن من واجب المسلمين السنة الالتفاف حول قائدهم، ونبذ التشرذم والتشتت اللذين مآلهما تضييع مصالح ومكاسب ومنافع على الطائفة، بل جلب مضارّ شديدة من حيث لا يدري الطامحون أو المنفضّون من حول الزعيم. وإذ ذاك يصبح الالتزام بمسيرة تيار المستقبل واجباً دينياً، لأنه ما لا يتحقّق الواجب إلا به، يصبح بدوره واجباً، أي بما أن المصالح لا تتحقّق إلا بالوحدة، فتصبح الوحدة السياسية واجبة شرعاً، وبما أن سعد الحريري هو صاحب أكبر تكتل شعبي، فيكون الالتحاق به واجباً، فلا يمكن أن تطالب الأكبر حجماً بأن يلتحق بالأصغر.

لكن يَرِد على هذه الحجّة، أن المصالح المشروعة لأهل السنة لم تتحقّق عندما كان سعد الحريري هو الزعيم الأوحد بعد عام 2005، حينما لبس عباءة الشهيد الرفيق، فما بالك ولم يعد زعيماً شاملاً لأهل السنة، وتضاءلت رقعة التأييد له على نحوٍ متباطئ ثم متسارع في السنوات الأخيرة، وتكفّلت التنازلات التي قدّمها للرئيس ميشال عون وفريقه، في إطار التسوية الرئاسية، بتضييع مكتسبات بدلاً من تحصيل مكاسب جديدة. فكيف يكون الحال بعد خروجه من التسوية ومن السلطة، وما هو المستطاع الآن أن يفعله؟

الوجه الثاني، أن المقصود بالولاء الديني لسعد الحريري، ما قصده فقهاء القرون الوسطى في نهايات الدولة العباسية ولا سيما إمام الحرمين أبا المعالي الجويني في كتابه غياث الأمم في التياث الظُّلَم، عندما تحدثوا عن صاحب الشوكة أي من يملك القوة وضرورة مبايعته، لتأمين مصالح الناس، فمن لا شوكة له لا مصالح تُرجى منه، أي تحقيق مصالح الناس دنيوياً ودينياً. لكن لبنان دولة غير دينية وإن كانت تحفظ حقوق الطوائف الدينية. وهي دولة واحدة، وإن كانت عملياً كونفدرالية الطوائف كما كان يقول المرجع الدستوري إدمون رباط. وحتى لو تحوّل لبنان إبان الحرب الأهلية وبعدها، إلى مناطق نفوذ طائفية وحزبية، لكن هذه الطائفة أو تلك، ولا الحزب الفلاني، قد أعلنت (أو أعلن) إمارة دينية واضحة المعالم وإن كان الخطاب السياسي بات متقعّراً في طائفيته الدينية بل في تطرفه. ولو كان ذلك كذلك لانتخب زعيمها بالبيعة الدينية، ولكان الولاء له دينيّ الطابع، ولانتهى لبنان ككيان سياسي. وعليه، ليس سعد الحريري زعيم إمارة سنية، وهو السلطان فيها لأنه الأقوى، فيتخرّج من هذا الاستنتاج استطراداً، أن الواجب الديني علينا كمسلمين سنة مبايعة الزعيم الأقوى، صاحب الشوكة. فلا سعد الحريري سلطان، ولا هو يزعم الخلافة، وليس في مشروعه السياسي أهداف دينية.

على أنه في كلام قاضي شرع طرابلس عبد المنعم الغزاوي، شبهة أخرى، ينبغي أن يتنزه عنها من هو في مقامه. فمن غير المحبّذ موالاة العلماء للأمراء بالمعنى المتعارف عليه في التراث الإسلامي، فكيف يكون الحال في أيامنا التي تشتد فيها الالتباسات وتتداخل. ويُستثنى من كل ذلك، أن يكون العالِم أو الشيخ، ناصحاً ومذكّراً لصاحب السلطة، آمراً له بالمعروف وناهياً عن المنكر، لا أن يطالب الناس بمتابعة رجل السلطة دون أي نقاش أو سؤال.

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…