عندما تذوّقتُ “تفاح المجانين”: الريبوخة

مدة القراءة 4 د


ارتبط الريبوخ لديّ بالبُكم. كنت كلّما وقعت على ثمرة ريبوخ، أو فاح عطرها الأخّاذ في أنفي، أتذكّر تحذير أمي: إياك أن تأكل منها، فتصاب بالبكم. وكان البكم لديّ مألوفاً، إذ أمضيت طفولتي كلها صديقاً لصيقاً بعلي وحسين الأخرس. وكلاهما ولد مع مشكلة في السمع، أدّت إلى قصور في الكلام لديهما. وكان اسم شهرتهما إشارة واضحة إلى أنّ العائلة تمتلك تاريخاً وراثياً مرتبطاً بالصمم والبكم. ولما كنتُ آلف، بل أتقن لغة علي وحسين وأتواصل معهما بسهولة مطلقة، بل قل إنّني أكاد أنسى بوجودهما استخدام الكلام، إلا في ما ندر، فإنّني عند كل تحذير من أمي أو سواها في شأن الريبوخ، كانت رغبتي في تذوقه تزداد، مع كل ما يترتب على الأمر من “مخاطر” مفترضة.

والريبوخ ثمر يشبه الخوخ، لونه أصفر عند النضوج، له رائحة طيبة، وطعمٌ مرّ، كما تأكّدتُ لاحقاً. كما كانت تُنسج حوله حكايات كثيرة، ليس أقلّها أنه “بيض الجنّ”، أو “تفاح المجانين”، ولا أكثرها أنّه نبات مسمّ قاتل. ومع ذلك، كانت الرائحة تنتصر للريبوخ عند الناس، فتراهم في موسم الريبوخ، يحملون ثمره ويقرّبونه إلى أنوفهم، ويضعونه على تابلو السيارة أو فوق مكاتبهم. ولطالما تولّى الريبوخ وظيفة الوردة، فجرى تبادله بين العاشقين في مدرستنا.

وفي العشق كنتُ أبكم. لم أنطق يوماً، ولم أجرؤ يوماً أن أبادر إلى الكلام مع فتاة تعجبني. ولم تكن الفتيات في المدرسة تتقنّ لغة الإشارة. فصمتتُ طويلاً، ولم تهب يدي وردة أو ريبوخة، ولم تقطف مشمشاً ولا ذاق فمي مزّ اللعاب. بل كنت، لشدّة خجلي، أصاب بجفاف الحلق ومرارته، كلما وجدتني في تماس مباشر مع فتاة حلوة.

كان “لساني” ينطلق مع علي وحسين. ينطلق وهو مربوط. ولساني كان في يديّ وأصابعي وحركة جسدي. ولا أزال إلى اليوم، حينما أتحدّث استخدم جسدي وأطرافي بشكل مفرط، مع أنّ لساني انزلق إلى الثرثرة. ولا يبدو أنّ “لعنة” الريبوخ أصابتني، حتى حينما تجرّأتُ وقضمت من ثمره لأتذوّق طعمه، إذ كانت رائحته الشهية، توحي بأنّ المذاق سيكون بلا ريب حلواً.

سأتذكر صراخ جذوري حينما اقتلعتني الحياة من تراب الطفولة، كريبوخة منبوذة وملعونة

لم يكن حلو المذاق، بل شديد المرارة، ولم أبتلع الكثير، إذ اضطررت من مرورته إلى بصقه خارج فمي. وأول ما خطر لي بعد تذوّقه، هو الكلام. جرّبت لساني فوراً، كما يجرّب الشيخ الميكروفون في الجامع: “بسم الله، تيست وان، بسم الله”. وخرج الصوت. لم يصبني الريبوخ بالبكم. لساني طليق، لكنّه مرير. ولا يزال كذلك. يحمل جرعات هائلة من المرارة.

مضت سنوات على هذه التجربة. في حديقة بيتي في القرية نبتت ريبوخة في حوض الأزهار. تزهر في كل عام في أواخر الشتاء ثم تضع ثمراً أخضر سرعان ما يصفرّ في أواخر الربيع وتفوح رائحته في كلّ الحديقة، فأقطفه وأقرّبه إلى أنفي وأضعه على تابلو السيارة أو فوق مكتبي. تيبس النبتة وتموت بعد ذلك، ثم تعود لتحيا وتتجدد في الشتاء في المكان نفسه تماماً. وهذا يحدث منذ سنوات. ولا تسلم النبتة إياها من الخرافات والحقد الشعبي عليها. فأخطرني الرجل الذي أحضر لي الزبل (السماد) لأحواض الورد بضرورة أن اقتلع الريبوخة من جذورها، وأن جذورها تشبه الإنسان. حينما صورت الريبوخة مؤخراً، وسألت على “غروب” متخصص بالزراعة على فايسبوك، عن كيفية الاستفادة من ثمار الريبوخ لاستخراج البذر وزراعة المزيد منها، علّقت سيدة بأنّ عليّ أن أقتلعها تماماً وأنا ألبس قفازات واقية، وأن أحرق مكانها بعد اقتلاعها. والخرافة تقول بأنّ اقتلاع الريبوخة يجعل من جذورها (التي تشبه الإنسان) تصرخ بصوت يصرع كلّ من يسمعه (في أحد مشاهد “هاري بوتر” تجسيد لهذه الأسطورة). لهذا كانت الطريقة الوحيدة المتّبعة لاقتلاع الريبوخ تقوم على ربطها بكلب والمناداة عليه من بعيد، فيقتلعها ويموت من أثر صوتها، ولا يصاب المزارع صاحب الكلب، بأذى.

الريبوخة مزهرة في حديقة “الكهف”. منزلي الريفي الصغير. بعد أسابيع قليلة يعقد ثمرها. ثم أواخر الربيع ينضج وتفوح الرائحة الأخاذة الحلوة. سأقطف الثمرة، أقرّبها إلى أنفي، أشمّها مع كل ما تحمله من أثر، وكل ما تختزنه من “شبهٍ” بشخصيتي. سأغمض عينيّ وأتذكر طفولتي مع علي وحسين. سأتذكر الحبّ الصامت الذي بقي عصياً على النطق. وسأتذكر صراخ جذوري حينما اقتلعتني الحياة من تراب الطفولة، كريبوخة منبوذة وملعونة.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…