عام “الحرير” والنار: إيران في البحر الأحمر

مدة القراءة 6 د


بدأ عام 2023 بالصراع على رسم خطوط التجارة العالمية وانتهى بتداخل خطوط النار وخطوط الملاحة البحرية.

ليست مصادفة أن تفتح إيران المواجهة مع الغرب في البحر الأحمر، وأن تطلق نيران الصواريخ المنسوبة إلى الحوثي، لا إلى المواقع العسكرية أو السفن الحربية، بل إلى السفن التجارية.

في مطلع العام الماضي، كانت الصين تتقدّم الآخرين في رسم خطوط التجارة الدولية بمشروعها الخاص للعولمة المعروف باسم “الحزام والطريق”، وهي تسمية تختصر مكوّنين في المبادرة هما: “الحزام الاقتصادي لطريق الحرير” و”طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين”.

الصين سبّاقة… وأميركا متأخّرة 10 سنوات

وقد ضخّ هذا المشروع الذي أطلقته الصين عام 2013، استثمارات في الموانئ وسكك الحديد والمناطق الاقتصادية بمئات مليارات الدولارات في عشرات الدول النامية، من شرق آسيا إلى باكستان والشرق الأوسط وإفريقيا وأميركا اللاتينية وشرق أوروبا. وأنشأ حتى الآن 56 منطقة للتعاون الاقتصادي والتجاري في 20 دولة، لا شكّ في أنّ السعودية واحدة من أهمّها على الإطلاق، بفضل موقعها الجغرافي ووزنها الاقتصادي ودورها المركزي في إمدادات الطاقة. يكفي أنّ السعودية ظلّت أكبر شريك تجاري للصين في الشرق الأوسط منذ عام 2001، بحجم تجارة ثنائية وصل إلى 116 مليار دولار في 2022. ولا تخفى دلالة أن تستثمر “كوسكو”، عملاق إدارة الموانئ والشحن الصينية، في محطة للحاويات في ميناء جدّة على البحر الأحمر.

بدأ عام 2023 بالصراع على رسم خطوط التجارة العالمية وانتهى بتداخل خطوط النار وخطوط الملاحة البحرية

… والسعوديّة محور “الممرَّيْن”

تأخر الردّ الأميركي عقداً كاملاً، قبل أن تقود إدارة الرئيس جو بايدن جهود مجموعة السبع لإطلاق مشروعها المنافس في القمّة التي عُقدت في ألمانيا في تموز الفائت تحت اسم “خطّة الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار”. تعهّد بايدن حينها بأن تعمل الولايات المتحدة على توفير 200 مليار دولار لتمويل الخطّة بينما توفّر باقي دول مجموعة السبع 400 مليار دولار أخرى بحلول عام 2027.

أتت المفاجأة الأخرى في أيلول الفائت، حين انتهز بايدن انعقاد قمّة العشرين في دلهي ليعلن عن خطّة الممرّ الاقتصادي من الهند إلى أوروبا عبر الإمارات والسعودية وإسرائيل، في إطار مشروع متجدّد للشرق الأوسط تختلط فيه الشراكة الاقتصادية بسياسة التطبيع. وكما في خطّ الحرير البحري، تحوز السعودية دور العقدة المركزية في هذا الممرّ البديل، لكن من خلال البرّ.

إذا ما عُطف ذلك على الدور العالمي الأساسي للموانئ الإماراتية الكبرى (جبل علي وخورفكان وميناء زايد)، فإنّ لذلك أهمية بالغة في موازين الإقليم. ولا شكّ أنّ إيران تتوجّس من مركزية دور السعودية والإمارات في خطوط التجارة الدولية وفي الخطط المتنافسة لأكبر قوّتين اقتصاديّتين في العالم.

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ إيران تقع على خريطة طريق الحرير البرّي (الصيني) الذي يمتدّ من الصين عبر القوقاز إلى تركيا فأوروبا، لكن دون هذا الخط عقود طويلة من الاستثمارات الباهظة، وعوائق أمنيّة في دول لم تعرف طعم الاستقرار السياسي والأمنيّ منذ عقود.

لذلك كان لا بدّ لطهران من أن تنظر في مستقبل وزنها الاستراتيجي في الإقليم حين تصبح خطوط التجارة محدِّداً رئيسياً للأوزان في العلاقات والتحالفات الدولية. ولا بدّ أنّها لمست التحوّل الذي طرأ على موقف إدارة بايدن من السعودية، من خطاب شعبوي يتعهّد بتحويلها إلى “دولة منبوذة” إلى إفراط في التقرّب والودّ ظهر في زيارة بايدن لجدّة في صيف 2022، ثمّ في قمّة العشرين في دلهي.

ليست مصادفة أن تفتح إيران المواجهة مع الغرب في البحر الأحمر، وأن تطلق نيران الصواريخ المنسوبة إلى الحوثي، لا إلى المواقع العسكرية أو السفن الحربية، بل إلى السفن التجارية

إيران قلقت… وتحرّكت

قد يكون مشروع الممرّ الهندي – الأوروبي بالذات أثار قلق طهران، لأكثر من سبب:

1- أنّ إيران كان تعوّل كثيراً على تعزيز علاقتها بالهند لرسم خطّ جديد للتجارة الدولية بين آسيا وأوروبا يُعرف باسم “الكوريدور الدولي للنقل بين الشمال والجنوب” (INSTC)، وهو مشروع بدأ باتفاقية ثلاثية بين إيران وروسيا والهند لتأسيسه قبل عقدين من الزمان، بهدف نقل البضائع من الهند إلى ألمانيا عبر مسارات بحريّة وخطوط لسكك الحديد والطرق، بطول يزيد على سبعة آلاف كيلومتر. وقد كثفت طهران جهودها بشكل لافت في الأشهر الماضية لتسريع الاستثمارات في هذا المشروع، وتذليل العقبات أمام اتفاق استراتيجي مع الهند لتطوير ميناء تشاهبار في جنوب إيران في إطار هذا الخطّ.

2- أنّ إيران وجدت جارتها الهند، وهي القوّة الصاعدة التي يعوّل عليها الغرب لتكون المنافس الموازن للصين في خطوط الإمدادات، وجدتها تبتعد عنها استراتيجياً لتعمّق شراكتها مع الولايات المتحدة، وتنخرط في مشروع دولي كبير مع السعودية والإمارات.

3- أنّ الهند كانت تربطها أصلاً علاقات وثيقة مع إسرائيل، تتجلّى أكثر ما تتجلّى في الشراكات التكنولوجية والتكنولوجيا الزراعية بشكل خاصّ. ولطالما تغنّت إسرائيل في المحافل الدولية بالحلول التي قدّمتها للهند لتطوير أنظمة ريّ الأرزّ، وتلك مسألة تتعلّق بالأمن الغذائي الهندي. يضاف إلى ذلك الانحياز الهندي “الطبيعي” إلى إسرائيل في مقابل انحياز عدوّتها اللدود باكستان إلى القضية الفلسطينية. ولذلك ترتاب طهران من أن يتّخذ القرب الهندي من إسرائيل بعداً جديداً بشراكة في خطوط التجارة وإمدادات الطاقة تمتدّ إلى أوروبا، بدعم أميركي مباشر.

إيران تهاجم… طمعاً بـ”التفاوض”

لا يمكن فهم التحرّك الإيراني في البحر الأحمر إلا في هذا السياق. وهو في أيّ حال ليس تحرّكاً في سبيل ابتغاء مواجهة عسكرية مباشرة مع الأميركيين. كما أنّ الأميركيين لم يشكّلوا القوّة البحرية للذهاب إلى حرب مفتوحة في الإقليم. فأقصى ما تريده واشنطن أن تردع الحوثيين وإيران من ورائهم، من خلال عمليات كتلك التي أغرقت ثلاثة قوارب في اليومين الماضيين، أو حتى من خلال ضربات موضعية في البرّ اليمني إذا اقتضى الأمر.

في المقابل، تبدو إيران كما لو أنّها تسير في طريق سارت عليه كوريا الشمالية من قبل، فهي دولةٌ تراكم القوة العسكرية (والنووية ربّما)، فيما تعيش العزلة الاقتصادية، ويعيش شعبها الفقر، وتزداد الفجوة في مستوى التنمية مع جوارها المزدهر.

إقرأ أيضاً: ساتلوف لـ”أساس”: إيران تُريد الاحتفاظ بالحزب ليوم آخر..

لا تريد إيران من التحرّك في البحر الأحمر أن تذهب إلى مواجهة كاملة مع الأميركيين، وليس من مصلحتها العبث باستقرار الممرّ الذي تمرّ عبره تجارة الصين مع العالم، لكنّها تتحرّك هناك لتحريك المعادلات، ولتعزيز أوراق التفاوض مع إدارة أميركية ليس لديها أيّ حماسة للذهاب إلى مواجهة كبرى في الإقليم.

في خريف عهد الخامنئي، تبحث إيران عن طريق وصورة لما تريد أن تكون عليه في العقود المقبلة: دولة تنخرط مع الإقليم في شراكة للازدهار أم تبتزّه بالقدرة على العبث بالاستقرار على نحو ما فعل الحوثيون يوماً حين هاجموا منشآت “أرامكو”، أو على نحو ما فعل الأمين العامّ للحزب السيد حسن نصر الله حين هدّد الصورة الزاهية لـ”المباني الزجاحية” في الإمارات؟

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…