الخطر الأكبر على إسرائيل ليس النووي الإيراني، ولا الصواريخ الدقيقة التي في حوزة الحزب، ولا مسيّرات الحوثيين القادرة على إغلاق ممرّ الملاحة في باب المندب: إنّه الضفة الغربية، حتى لو كانت مجرّدة من السلاح.
لا شيء كغضب الضفة يخيف إسرائيل ويرعبها. فكرة هذا الكيان تستند إلى سردية قوامها أنّ الضفة التي يطلق عليها اسم “يهودا والسامرة”، هي جزءٌ من المشروع اليهودي التوراتيّ القديم، وأنها تمثّل قلب الممالك الإسرائيلية الأولى في “أورشاليم” و”شخيم”، وأنّه من دونها لا تكون دولة عبرية، ولا تتشكّل دولة اليهود وتكتمل، وأنّ القدس (أورشاليم) التي يؤمنون بأنّها العاصمة الأبدية والموحّدة لكيانهم، لا تقوم إلا إذا ارتبطت بـ”يهودا والسامرة”، وكانت جزءاً منها.
الخطر الأكبر على إسرائيل ليس النووي الإيراني، ولا الصواريخ الدقيقة التي في حوزة الحزب، ولا مسيّرات الحوثيين القادرة على إغلاق ممرّ الملاحة في باب المندب: إنّه الضفة الغربية، حتى لو كانت مجرّدة من السلاح
تفاصيل مخطّط “تهويد” الضفّة
هذه الأرض الفلسطينية هي آخر مكان في العالم تحت الاحتلال رسمياً بشهادة الأمم المتحدة:
– اقترفت إسرائيل كلّ ما استطاعت من انتهاكات لكسرها وهضمها وابتلاعها وتخويف قاطنيها، لكنّها تبقى التهديد الوجودي الأكبر لها.
– أفزعتهم في انتفاضتَيْها الأولى والثانية وتخشى انتفاضة ثالثة لا تبقي ولا تذر.
– خنقتها بالحصار والاعتقال.
– حوّلتها سجناً كبيراً.
– زرعت تلالها ونقاطها الحيوية بأكثر من 300 مستوطنة يسكنها نحو 600 ألف مستوطن، بينهم 230 ألفاً في القدس الشرقية.
– منحت هؤلاء حقّ قتل السكّان الأصليين ومصادرة ممتلكاتهم ومياههم من دون حسيب أو رقيب.
– منعت الفلسطينيين في المقابل من البناء وجعلت هدم المنازل عقاباً شاملاً.
– طوّقتها بجدار الفصل الذي عزل تجمّعات سكنية فلسطينية عن مدنها وقراها خلف السور.
– قطّعت أوصالها بالحواجز والقواعد العسكرية، وقلّصت الحكم الذاتي إلى أقصى حدود.
– حوّلت سلطتها، بالتنسيق الأمني، إلى شرطة تتولّى حراستها تحت طائلة حرمانها من عائداتها الماليّة المتوجّبة لها من الضرائب.
– شقّت طرقاً التفافيّة حول مدنها الكبرى لضمان السيطرة الأمنيّة التامّة لها.
– منعت أهلها من الاقتراب من الغور حتى تحرمهم من أيّ تواصل جغرافي لاحقاً مع الأردن.
– عمدت إلى إقامة شبكة مواصلات متطوّرة وبنية تحتية حديثة لربط القدس بالكتل الاستيطانية الكبرى لتعزيز الثقل اليهودي في ديمغرافيا لا تتطوّر وفق مصلحتها وتهدّد التوازن فيها.
– كثّفت الاستيطان من المدينة المقدّسة إلى البحر الميّت لشطر الضفة إلى شطرين. كذلك فعلت على الواجهة الشرقية من عراد في النقب إلى جبل الجلبوع في بيسان، لتحويل الغور حتى المنحدرات الشرقية لجبال الضفة حاجزاً منيعاً بين الفلسطينيين والأردنيين.
– عزّزت المستوطنات جنوب جبل الخليل كغلاف شمالي لبئر السبع على غرار غلاف غزة.
– بنت المستوطنات غرب رام الله لحماية سهلها الداخلي الضيّق الذي يشكّل خاصرتها الرخوة. لكنّ التدخّل الدولي حال دون قرار ضمّها بالكامل، غير أنّه لم يمنع التطبيق التدريجي لفرض السيادة الإسرائيلية عليها.
كانت أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) بمنزلة جرس إنذار مدوٍّ لإسرائيل بما قد يحدث في الضفة إذا ما انتفضت مجدّداً. لم تكتفِ بالانتقام المجنون من غزة، بل أظهرت مستوى جديداً من الوحشية في الضفة
ماذا يمكن أن يفعل “غضب الضفّة”؟
لن تقبل إسرائيل بتفكيك أيّ من مستوطناتها في الضفة فكيف لها أن تقبل بقيام دولة فلسطينية على أراضيها؟ وكيف ستقبل بوجود آخر غيرها هناك؟ ومن دون الكتل الاستيطانية سيكون الجيش الإسرائيلي عارياً غير قادر على الدفاع عن نفسه وشنّ عمليات في عمق الضفة. قطاع غزة الصغير المنبسط أنهك بمقاومته نخبة الجيش، فماذا في إمكان الضفة بتلالها العالية إذا ما انتفضت وتسلّحت أن تفعل بالعمق الإسرائيلي المحاذي لها والأقلّ انخفاضاً؟
على مدى سنوات الاحتلال الطويلة غيّرت إسرائيل معالم الضفة ونخرت عظامها وجعلتها كقطعة جبن سويسرية، ومع ذلك ظلّت تمثّل كابوساً مرعباً لكلّ من تعاقب على حكم تل أبيب من اليمين واليسار. وجاءت صفعة غلاف غزة لتركّز أنظار عتاة التطرّف الإسرائيلي، على تنوّع مشاربهم، ليس على الخطر الذي ذاقوا لوعته من القطاع الضيّق والمحاصَر، بل على الخطر الأكبر الذي يمكن أن يطيح كلّ مشاريعهم الاستعمارية إذا ما تفجّر غضب الضفة كما تفجّر غضب غزة.
غضب أبناء القطاع دفع بهم إلى قلب الغلاف المحصّن في النقب وخرق مستوطناته والمستوطنين. أمّا غضب الضفة إذا ما تفجّر فإنّ ناره ستصل إلى المدن الساحلية مثل ناتانيا وحيفا وتل أبيب، وقادرة على شطر الكيان إلى نصفين في أكثر المناطق الإسرائيلية سكّاناً وحيوية. إسرائيل بلا الضفة هي كالجندي بلا سلاح وبلا ردع وبلا درع الذي يسهل القضاء عليه وإخراجه من ساحة المعركة، ولا يفيدها آنذاك الغطاء الجوّي ولا القبّة الحديد.
كانت أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) بمنزلة جرس إنذار مدوٍّ لإسرائيل بما قد يحدث في الضفة إذا ما انتفضت مجدّداً. لم تكتفِ بالانتقام المجنون من غزة، بل أظهرت مستوى جديداً من الوحشية في الضفة مارسه الجنود والمستوطنون على حدّ سواء قتلاً واعتقالاً وتهديداً بنكبة جديدة.
جاء في أحد المنشورات التي نُثرت في المدن والقرى الفلسطينية: “أنتم مَن بدأتم الحرب، لذا فلتستعدّوا لمواجهة نكبة جديدة”. وجاء في آخر: “نحن نمنحكم فرصة الهروب إلى الأردن الآن على نحوٍ منظَّم، لأنّنا سنُبيدكم ونطردكم بالقوّة من أرضنا. لذا يُستحسن أن تحزموا أمتعتكم بسرعة، ولا تنسوا أنّنا حذّرناكم”.
خطّة إسرائيلية: التسوية الحاسمة
كشف الجناح الأكثر تطرّفاً في الحكومة الإسرائيلية عن خطة يتوافق عليها كلّ الإسرائيليين ضمناً، عنوانها “التسوية الحاسمة”، وهدفها إنهاء الصراع بين الطرفين عن طريق الاستيطان، وتطالب بإنشاء مدن ومستوطنات إسرائيلية إضافية داخل الأراضي الفلسطينية واستقطاب مئات الآلاف من المستوطنين الإضافيين للسكن فيها. وتضع أهل الضفة البالغ عددهم 3 ملايين نسمة، أمام خيارين:
– العيش بوصفهم سكّاناً داخل دولة يهودية لا يتمتّعون بأيّ حقوق سياسية ومحرومين من أيّ نفوذ سياسي.
– أو الهجرة والرحيل.
تلوّح بالغزو العسكري لرافضي الخيارين، وصولاً إلى التهجير القسري والتطهير العِرقي.
هذه الخطة يجري تنفيذها على مرأى العالم ومسمعه، ولا أحد يحرّك ساكناً. هي محاولة للقضاء على أيّ أمل للفلسطينيين بإقامة دولة. ومع ذلك تتكرّر عبارة “حلّ الدولتين”. هذا الحلّ مزحة سمجة صدّقها البعض.
إقرأ أيضاً: أيّ دور للسلطة في غزّة والقانون يحظرها في واشنطن؟
إنّها كذبة انتهى مفعولها يوم 7 أكتوبر. وسقطت صيغتها المطروحة تحت النيران وصار لزاماً البحث عن شيء آخر.
قبول إسرائيل بهذا الحلّ يُعدّ ضرباً من ضروب المستحيل. هي لا تنفكّ تؤكّد كلّ يوم: “نحن وحدنا على هذه الأرض، لا أحد معنا، ولا أحد يمكن أن يشاركنا فيها”.
في المقابل ثمّة فتيان في الضفة وغزة والجليل والنقب يؤكّدون باللحم الحيّ أنّ “هذه الأرض أرضنا ولا نقبل بغيرها بديلاً”. هؤلاء هم وحدهم أصحاب الشرعية ولهم الحقّ الحصري بالنطق باسم فلسطين، ولديهم القدرة على تجاوز المأساة العميقة الحاصلة على الأرض حالياً وفعل ذلك.
ثمّة حقائق ديمغرافية ومتغيّرات سياسية واجتماعية عند الطرفين على الأرض لا يمكن دحضها أو تجاهلها.