“طوفان الأقصى من أهمّ نتائجه أنّه دمّر الصورة الأميركية وقدّمها بأبشع حقائقها. لأنّ اليوم، الذي يقتل في غزة هو الأميركي والقرار الأميركي والسياسة الأميركية والصاروخ الأميركي والقذيفة الأميركية”.
هذا الكلام هو لأمين عامّ الحزب قبل يومين.
قبل أسابيع قليلة، وفي سياق حرب غزة أيضاً، وبشكل أكثر تفصيلاً وإسهاباً، أعلن الأمين العام كذلك ما يلي: “ما يحصل يكشف ويؤكّد المسؤولية الأميركية المباشرة عن كلّ هذا القتل والمجازر والهمجيّة وهذا النفاق الأميركي. يجب أن نعرف اليوم أنّ أميركا هي المسؤولة بالكامل عن الحرب الدائرة في غزة وعلى شعبها. أميركا هي التي تمنع إدانة إسرائيل في مجلس الأمن. أميركا هي التي تمنع وقف إطلاق النار في غزة. أميركا هي التي تمنع وقف العدوان على غزة. وأميركا تثبت من جديد أنّها الشيطان الأكبر. هي المسؤول الأوّل عن كلّ المجازر في القرن الحاضر والماضي. من هيروشيما إلى فيتنام إلى العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين وإلى كلّ المنطقة. ويجب أن تُحاسب على جرائمها وعلى مجازرها. ويجب أن تُجازى على ما ترتكبه بحقّ شعوب منطقتنا”.
طوفان الأقصى من أهمّ نتائجه أنّه دمّر الصورة الأميركية وقدّمها بأبشع حقائقها. لأنّ اليوم، الذي يقتل في غزة هو الأميركي والقرار الأميركي والسياسة الأميركية والصاروخ الأميركي والقذيفة الأميركية
لكن قبل سنة بالتمام، قال الأمين العامّ للحزب في 29 تشرين الأول 2022، وذلك بعد اتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل، برعاية أميركا نفسها ووساطة إدارتها الحالية ذاتها، ما يلي حرفيّاً:
“هذه بداية كسر الحصار الأميركي والغربي على لبنان (…) وإنّ غداً لناظره قريب. وهذا سيضع لبنان على طريق الاقتصاد. هوكستين تكلّم هكذا وبلينكن تكلّم هكذا وبايدن تكلّم هكذا أيضاً (…)، هذا تحوّل كبير”.
*********************************
ليس المقصود بالاستذكار أيّ تسجيل نقاط. ولا أيّ “تمريك” على طريقة المماحكات اللبنانية. فالمرحلة دقيقة خطيرة. والصراع وجودي يدور بدماء لبنانيين مقاومين، بمواجهة عدوّ متوحّش.
بل على العكس تماماً. فالكلّ يعلم، أو يقدّر، أنّ قيادة الحزب لم تكن مقتنعة ولا موافقة على تلك الصفقة يومها. ولم يكن إبرام اتفاقية دولية حدودية وتجارية بين لبنان وإسرائيل، أمراً سهل البلع أو التبليع لحزب الشهداء والمقاومة والتحرير. فكيف إذا كان معروفاً مسبقاً من المعنيين، ومنهم الحزب وقيادته، بأنّ هذا الاتفاق سيتحوّل معاهدة أممية موثّقة ومسجّلة رسمياً مع الكيان. والأهمّ، كيف وأنّه أدّى إلى خسارة لبنانية كبيرة لقسم هائل من ثروات البلد، وإلى ربح إسرائيلي كامل.
صفقة كاريش… وإعادة تعويم حليف الحزب
لكنّ الحزب كان يومها مضطرّاً فوافق وغطّى. قيلَ لمسايرة أحد حلفائه في الداخل، ممّن توهّم بأنّ صفقة كاريش تلك، قد تجترح له المعجزة المطلوبة، لتعويمه أميركياً، وبالتالي إعادة إنتاجه محلّياً.
قيلَ أيضاً إنّها في سياق تسوية إقليمية كبيرة، ربطت بين حدود لبنان وحكومة العراق… فكان ما كان. حتى وجد الأمين العام للحزب نفسه يقول ذلك الكلام الإيجابي، عن هوكستين الأميركي – الإسرائيلي، وعن بلينكن وعن بايدن، قبل عام واحد فقط من جهنّم المفتوحة اليوم.
نستعيد ما سبق، للتأكيد على مسلّمة بديهية: أنّنا كلّنا بشر. وكلّنا نقع في هفوات أو سوء تقدير أو خطأ حساب أو اعتبارات عليا أو أقلّ علوّاً.
وهذا الأمر ممكن في أيّ لحظة وفكرة وخطوة وكلام.
وحرب غزة مفتوحة اليوم. والنقاش حولها محصور في أفضل الوسائل لنصرة شعب غزّة، وفي أنجع الأدوات لدعم قضية فلسطين.
وفي هذا النقاش المحدود والمحدّد، ثمّة رأي يمثّله الحزب، ويقول بفتح الجبهة من جنوب لبنان لإشغالٍ أو إلهاءٍ أو إسنادٍ أو سواه.
ثمّة رأي آخر قال به مسؤولون لبنانيون آخرون، ومرجعيات لبنانية أخرى، بحياد لبنان عسكرياً وأمنيّاً، وتقديم أقصى الدعم السياسي والإعلامي والشعبي والدبلوماسي. خصوصاً بعدما تحوّل جنوب لبنان من جبهة لبنانية صرفة، إلى مسرح مفتوح لحركات مسلّحة غير لبنانية، أو حتى ميليشياوية، ومع دعوات لفتحها بالمطلق. وهو ما يحمل في ذاكرة اللبنانيين عموماً، والجنوبيين خصوصاً، تاريخاً من المآسي والأهوال والكوارث، التي كادت تقضي على لبنان وعلى فلسطين معاً.
في لبنان أيّ صراع داخلي هزيمة للجميع. فكيف إذا كان خطأُ أيّ منّا وارداً. تماماً كما يُظهر كلام اليوم، أنّ البعض أخطأ قبل سنة
حملة بذيئة على الرأي الآخر؟
في سياق هذا التمايز في الآراء، تفلّتت من على جوانب الحزب وبيئته، حملة عنيفة ضدّ أيّ رأي آخر، أيّاً كان صاحبه، بلغت حدّ البذاءة المقزّزة.
لا يمثّل هؤلاء الحزب؟ لا يتحدّثون باسمه، ولا يعكسون وجهات نظره؟ لم يصدر شيء في الإعلام الرسمي أو “الكلاسيكي”، بل مجرّد مهاترات السوشيل ميديا؟
هي أعذار أقبح، وتبريرات أسوأ وأخطر. فالكلّ يعلم أنّ هذه المنابر هي الإعلام الحقيقي اليوم. وهي أصوات الجيل الفاعل لدى كلّ قوة سياسية في البلد أو في العالم. وهي النبض الأدقّ لأيّ جماعة وبيئة. فكيف إذا كان ما يصدر فيها وعنها، منسّقاً بواسطة جيوش إلكترونية وجهات رسمية وأجهزة منظّمة؟!
باختصار شديد، وحتى لا نجرح ولا ننكأ، أن يُقال لبطريرك الموارنة “خسئت يا راعي…”، فهذه جريمة بحقّ لبنان.
وأن توصف مرجعيات لبنانية كاملة بأنّها “صهاينة الداخل”، فهذه جريمة حرب بحقّ الوطن، بميثاقه وكيانه وسلامه واستقراره وماضيه وحاضره ومستقبله، بكلّ من هذه المكوّنات حرفياً وبدقّة.
ونُعفيكم من باقي الكلام والردود والمهاترات.
برّي وحسّه الميثاقيّ العميق
الرئيس نبيه برّي تنبّه بحسّه الميثاقي العميق، لخطر تلك الظواهر. فردّ قبل أسابيع، وفرض على الآخرين الردّ والكبح واللجم. لكن لم يلبث الدسّ أن عاد.
والأخطر أنّه دسٌّ يترافق مع نذيرين اثنين:
أوّلاً، مؤشّرات غليان في الشارع، تُرجمت في أكثر من نقطة ومحلّة. ولو بطريقة مخابراتية على طريقة الإلهاء وحرف الأنظار.
وثانياً، ردّ فعل لا يقلّ خطورة وتوتّراً من الجهة الأخرى، عبر خطاب بدأ يظهر علناً ويعبّر عن نفسه بأسماء وجهات معروفة، يقول بضرورة “الانفصال الحبّيّ عن دويلة الحزب”، بذريعة “إنقاذ ما يمكن إنقاذه من دولة لبنان”.
أمّا أسوأ ما في الخطابين، في فعل الأول كما في ردّ فعل الثاني، فهو قطعهما بأنّ كلّ كلام مغاير خائن عميل مهدور الدم أو الحقّ بالكلام.
لا علاقة للحزب بكلّ ذلك؟
عندها أمام قيادته خياراتٌ محدّدة: إمّا أنّها مبتلاة ببعض جمهورٍ يؤذيها بقدر ما يؤذيها العدوّ. وإمّا أنّها عاجزة عن التأثير في قناعات بعض ناسها. وإمّا أنّها غير مبتلاة ولا عاجزة، لكن…
الحقيقة أنّه يستحيل تحديد أيّ من هذه الاحتمالات هو السيّئ، وأيّها هو الأسوأ.
والأمر نفسه في المقلب الآخر. حيث يستحيل على من يدّعي الالتزام بخطاب بكركي، أن يجاهر بدعوات الانفصال، وأن يدّعي بذلك دفاعاً عن الصرح وموقفه وناسه.
إقرأ أيضاً: عام “الحرير” والنار: إيران في البحر الأحمر
محسن إبراهيم… والخطآن
كلّ ما سبق كلام بكلام، فيما الحسم للقوّة والسلاح؟
هي مقولة خاطئة ساقطة أيضاً. ففي لبنان لا ينتصر سلاح على حقّ. ولا غلبة لقوّة على منطق الوطن.
في لبنان أيّ صراع داخلي هزيمة للجميع. فكيف إذا كان خطأُ أيّ منّا وارداً. تماماً كما يُظهر كلام اليوم، أنّ البعض أخطأ قبل سنة.
رحم الله محسن إبراهيم، في نقده الذاتي الجريء، يوم أعلن في أربعين الشهيد جورج حاوي اعترافه بالخطأين التاريخيَّين: “الخطأ الأوّل أنّنا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني، ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلّحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافاً. والخطأ الثاني، أنّنا استسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي”.
فماذا لو سلّمنا استطراداً، أنّنا راهناً أمام أخطاء مطابقة، أفلا يجدر بنا السؤال عندها: هل تفجير لبنان شرط لتحرير غزة؟!
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@