منذ 17 تشرين، وطوال أشهر الثورة، وما بعدها، ظلّت طرابلس “عروس الثورة”. ساحة النور فيها مفتوحة على جلّ الديب والنبطية، من شبّاكها أطلّ ثوّار بيروت، ومن بوابتها انفتحت على ثوّار صيدا والبقاع. وكادت أن تختصر الثورة بفرحها العارم، وساحتها المليئة بالأهازيج والأغنيات.
مشهد طرابلس أغضب كثيرين. كان لا بدّ من إسكاتها، من تشويه صورتها، من إهدائها مكان الوردة سكّيناً. يا طرابلس.
في الأسابيع الأخيرة من موجة الثورة الأولى، وقبل أن يأتي فيروس كورونا ويفرغ شوارع الكوكب كلّه، بدأت أصابع حزبية ومخابراتية تحاول “البلغصة” في المدينة. ولم يكد لبنان يعود إلى حياته الطبيعة، حتّى عادت الأصابع، بخبرة أكبر، وعزيمة أكثر سواداً، على تشويه المدينة وصورتها.
إقرأ أيضاً: دولار الفيسبوك يُنزل جميع اللبنانيين إلى الشارع: 60% منهم تحت خط الفقر
معلومات “أساس” الأمنية تؤكّد أنّ مجموعات من “سرايا المقاومة” عملت على ترويع السكّان والتجّار في الأيام الأخيرة. وقد بات واضحاً لكلّ الثوّار أنّ “الغِربية” وامتداداتهم داخل المدينة، هم الذين قادوا عراضات “الموتوسيكلات” خلال الأيام الأخيرة.
المجموعات دخلت إلى المدينة بغطاء من وجوه معروفة في “السرايا” وبولائها لحزب الله، منذ سنوات. فهناك مجموعة يقودها من باب التبانة م.أ.، وفي البدّاوي ن.م. وأولاده، وهناك مجموعة تتبع ك.خ. من المنية، وهو المعروف بولائه لحزب الله وسط جزء من عائلته الكبيرة. إلى جانبهم مجموعة يقودها شخص من آل رومية أيضاً يتبع ك.خ.، ومجموعة أخرى يقودها شخص من آل موري، كذلك من التابعين للشخص نفسه.
ورصدت العيون الأمنية مجموعات يموّلها ن.ش.، وهو نجل شيخ شهير في المدينة، كان ابنه الثاني قد انكفأ عن العمل التنظيمي قبل فترة، ليتصدّر شقيقه مهمة قيادة وتمويل هذه المجموعات، التي راحت تروّع الأهالي في الأيام الماضية وصولاً إلى فرض خوّات على المحلات.
التوقيفات طالت العشرات منهم، 70 بحسب المصادر القضائية، وقد باتوا في قبضة الأجهزة الأمنية، لكنّ الناشطين يتخوّفون من تدخلات حزبية وسياسية تلطق سراح معظمهم، ليعودوا إلى الشارع، برعاية حزبية وأمنية علنية.
المشهد في طرابلس خلال نهاية الأسبوع الماضي كان يشبه مشهد بيروت، حين خرجت “الموتوسيكلات” من ضاحية بيروت الجنوبية والخندق الغميق ومن مواقع أخرى لتدمير وسط بيروت.
في طرابلس كذلك خرجت مجموعة دراجات نارية يقودها شبّان لا تتعدّى أعمار الواحد منهم الـ17 أو 18، جابوا شوارع المدينة، راشقوا المطاعم والأفران بالحجارة لإجبار أصحابها على الإغلاق تحت ذريعة “الجوع”. واللافت أنّ هذه المطاعم لطالما كانت إلى جانب الثوار والثورة، وبعضها مدّهم بالطعام والشراب، من جيوب أصحابها.
بعد هدوء “المعركة”، بدأت الصورة تتضح بالنسبة للثوار، فنشرت صفحة “نبض الثورة”، أسماء الجهات المسؤولة عن التخريب. وهي جهات موالية لحزب الله.
في السياق نفسه، أكّد عدد من الناشطين تورّط شبان من خارج طرابلس.
مسؤول “حراس المدينة” أبو محمود شوك نفى لـ”أساس” علاقته بما قامت به المجموعات، معلناً “رفضنا وشجبنا هذه الأعمال” وأضاف: “نحن على مدى 5 سنوات لم نقدم على أيّ عمل عنفي أو تكسير أو تخريب”.
يؤكد شوك أنّ هذه المجموعات غريبة عن ساحة النور، ولا علاقة لها بالثوار “هم مسيّرون ومن خارج المدينة”، رافضاً توجيه أصابع الاتهام لأيّ طرف دون دليل طالباً “من الأجهزة الأمنية التحقيق”. وكشف “تفعيل اللجان الشعبية لحماية أرزاق الناس”.
ما جرى ليل أمس بحسب شوك يهدف إلى “الانتقام من سمعة طرابلس. طرابلس دفعت فاتورة كبيرة، واستحقّت لقب عروس الثورة. هناك من يريد أن يحوّلها لصندوق بريد وأن يشوّه سمعتها”.
هؤلاء المندسون كان يدخلون على أعين الأجهزة دون أن تمنعهم
هذه المعلومات لم ينفها الناشط في حراك عكار إبراهيم وهبي، الذي كان موجوداً في طرابلس ليل السبت والأحد، ومواكباً التحرّكات على الأرض. فأوضح أنّ “المجموعة تتألف من شبان لا تتخطّى أعمارهم الـ17 عاماً، وهم من مناطق عدّة”. ولا يستبعد وهبي أن يكون بعضهم من عكّار، مشدّداً في الوقت نفسه على أنّهم ليسوا من ثوار عكار، وانّ لا سابق معرفة بهم لا منه ولا من الناشطين المعروفين.
وهبي الذي كان في ساحة النور لحظة وصول الشبّان، ينقل لـ”أساس” الأجواء كما رصدها: “وصلت هذه المجموعة وبدأت بالتخريب. بعضهم موالون للنائب فيصل كرامي وللحزب القومي السوري”. وفيما يرفض وهبي أن يدين أحداً، ينقل لنا أيضاً ما تمّ تداوله بأحد الفيديوهات عن تورّط شخص من عائلة شعبان وآخر من عائلة الموري.
هوية المجموعات بحسب وهبي تؤكدها أو تنفيها الأجهزة الأمنية، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ “هؤلاء المندسين كان يدخلون على أعين الأجهزة دون أن تمنعهم”.
لا ينفي وهبي تشابه مشهد ليل أمس، مع مشهد وسط بيروت “الثقافة نفسها والمخطّط نفسه”، لافتاً إلى أنّ بعض الأشخاص في طرابلس خرجوا علناً في الأيام الماضية وأكدوا رفضهم للمطالبة بتسليم سلاح حزب الله وشدّدوا على أنّهم مع المقاومة.
ماذا يقول سياسيّو المدينة؟
“هذه المجموعات تدور في فلك حزب الله، ويمكن وضعها في إطارين، الأوّل سرايا المقاومة ويديرها شخص أمني، والثاني الكيانات التابعة لـ8 آذار”، يقول اللواء أشرف ريفي في حديث لـ”أساس”.
يرفض ريفي الاتهامات التي تُساق ضد النائب فيصل كرامي: “فيصل ابن البلد، ولا يمكن أن يفرّط بأمنه”، معتبراً أنّ الهدف مما حدث “شيطنة طرابلس وشيطنة صورة الثورة فيها واختراقها وإرباك الناس”.
يشدد ريفي على ثقته بقيادة الجيش: “الأمور على الأرض ليست سهلة. وفي اليومين الماضيين كان هناك محاولة للإيقاع بين الجيش وباب التبانة من قبل بعض المندسّين. غير أنّ أهالي باب التبانة أجهضوا هذه المحاولة”.
بالنسبة للدكتور خلدون الشريف، المستشار السياسي للرئيس نجيب ميقاتي، المطلوب هو إعادة ضبط الأمن في طرابلس: “هذه مسؤولية الدولة، لا أمن ذاتي في طرابلس. وليس هناك في المدينة من يقطع الطرق ويمنع الناس من المرور”.
يستنكر الشريف استسهداف الممتلكات الخاصة: “حرق المصارف وضرب مصالح الناس هو أذى مرفوض”، رافضاً توجيه أصابع اتهام نحو جهة محدّدة، ومؤكداً أنّ “أكثر من جهة قد تكون وراء أحداث طرابلس. وليس مستبعداً أن يكون من نزلوا إلى التبانة مجموعة مختلفة عن التي نزلت إلى ساحة النور وعن التي هاجمت المطاعم”.
ويؤكّد الشريف أنّ “القوى الأمنية تعرف أفراد هذه المجموعة، فالصور موجودة والوجوه مكشوفة”، ويطالب الأجهزة “بالتحرّك فوراً”. ولا ينكر الدكتور خلدون أنّ جميع الأطراف تنقل معاركها إلى طرابلس، وتعتبرها “صندوق بريد”.
وكما الدكتور خلدون، القيادي في “تيار المستقبل” النائب السابق الدكتور مصطفى علوش يطالب الأجهزة الأمنية بالتحرّك، واصفاً ما يحدث بالـ”فوضى المفتوحة”.
ولا يستبعد علوش أن تكون هذه المجموعات تابعة لـ”سرايا المقاومة”: “قد تكون هذه المعلومات صحيحة، ولكن لا بدّ من تأكيدها عبر توقيف المتورّطين والتحقيق معهم”.
يرفض علوش وضع أحداث أمس في خانة الانتقام من ثورة طرابلس: “كلّ ثورة لديها مطالب. وعندما لا تتحقّق المطالب. يصبح لدينا حالة يأس تؤدي إلى العنف الأعمى وإلى الشغب”.
هل من شبه بين مشهد أمس وبين مشهد وسط بيروت الأسبوع الماضي؟ يجيب علوش: “هو المشهد نفسه نراه في مناطق مختلفة. لكنّ الأهم أنّنا نراه في المناطق ذات الكثافة السنية. وهي مناطق مخترقة أمنياً ويائسة وفاقدة للقيادة”.
الثوار تبرؤوا لاحقاً مما حدث في طرابلس في بيان مقتضب وزّعوه عبر مجموعات الواتساب
“هؤلاء لا علاقة لهم بالثورة”، يؤكد الناشط في التحرّكات الشعبية إبراهيم حيدر لـ”أساس”، فـ”لهجة بعضهم تؤكد أنّهم “كوكتيل” بعضهم من خارج المدينة والبعض الآخر من جنسيات مختلفة”. وبحسب حيدر “ينزل هؤلاء الشبان مقابل المال، ويحظون بغطاء أمني”.
“الخوّة ليست بالأمر الجديد”، يقول حيدر فـ”البعض كان يستغل قطع الطرق لفرضها منذ بداية الثورة”، مشدّداً عند سؤاله عن أحداث نهاية الأسبوع، على انتفاء علاقة الثوار بهذا المشهد: “الثوار في بيوتهم”، متسائلاً في الوقت نفسه عن دور الجيش.
مع العلم أنّ الثوار تبرؤوا لاحقاً مما حدث في طرابلس في بيان مقتضب وزعوه عبر مجموعات الواتساب.