لم يعد خافياً على الدوائر السياسية اللبنانية أنّ الكثير من الشعارات والتحرّكات المتعلّقة بإنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان هو لزوم تقطيع الوقت في انتظار مسار طويل من التحوّلات الإقليمية، فخطوات الانفتاح بين عدد من الدول تخضع لاختبارات تحتاج إلى الكثير من الوقت من أجل تبيُّن نتائجها، قبل أن تصل انعكاسات مناخات الاسترخاء إلى لبنان.
طرح “الحوار” الذي يضع فريق “الممانعة” جدول أعمالٍ له يقضي تارة بإقناع الفريق الخصم بمرشّحه سليمان فرنجية، وتارة أخرى بالاتفاق على سلّة من الخطوات تتزامن مع انتخاب رئيس الجمهورية، وتشمل الحكومة المقبلة ورئيسها، وتارة ثالثة بالبحث في ضمانات لـ”المقاومة” مع تلميح بأن تشمل تعديلاً في صيغة الحكم، لا يقود إلا إلى التخبّط في رفع هذا الشعار. سبب التخبّط أن ليس المقصود بالحوار التوصّل إلى مخارج، بل اختراع أسباب تبرّر إضاعة الوقت ريثما تتّضح رهانات على التحوُّلات الإقليمية والدولية.
لم يعد خافياً على الدوائر السياسية اللبنانية أنّ الكثير من الشعارات والتحرّكات المتعلّقة بإنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان هو لزوم تقطيع الوقت في انتظار مسار طويل من التحوّلات الإقليمية
مراهنة على “السين-ألف”
من بين انتظارات قوى الممانعة، وبعض الجهات التي تؤيّد مرشّحها الرئاسي، التي تبرّر الفراغ المديد، أن يصبح الجانب السعودي أكثر اقتراباً من خيار فرنجية.
بات شائعاً أنّ بعض رموز “الممانعة” من اللبنانيين يذهب إلى حدّ توقّع حصول اتفاقات سعودية إيرانية في شأن لبنان تقود إلى إدارة الوضع اللبناني وفق معادلة “السين-سين” (سوريا والسعودية) التي رست في التسعينيات، لكن برعاية إيرانية للدور السوري هذه المرّة. وبصرف النظر عن مدى صحّة هذه القراءة أو تلك، يذهب البعض الآخر إلى حدّ الحديث عن معادلة ألف-سين (أي السعودية وإيران) باعتبار أنّ طهران حلّت مكان دمشق، عبر الحزب.
تهدئة اليمن.. مقابل لبنان؟
يردّد رموز “الممانعة” جملة معطيات وتكهّنات:
1- ما يهمّ الرياض في الشقّ الإقليمي من اتّفاق بكين بينها وبين طهران هو استمرار التهدئة في اليمن، حتى لا ينعكس تجدّد القتال على أمن المملكة. وهي راضية لأنّ التحرّشات الحوثية في المناطق السعودية توقّفت منذ ما قبل إبرام اتفاق بكين (حين كانت المفاوضات بين الجانبين تجري في العراق ثمّ في عُمان). أمّا الميادين الإقليمية الأخرى فالبحث فيها مؤجّل، و”ما يهمّ الرياض ضمان الهدوء في اليمن وترك اليمنيين يتفاوضون فيما بينهم على الحلول، تجنّباً للانخراط في هذا التفاوض، ولا مانع لديها من أن تؤجل البحث في الموضوع اللبناني”.
تلبية مطالب طهران وتفاوضها مع أميركا
2- التفاهمات السعودية الإيرانية سبق أن دفعت الرياض إلى التقارب مع بعض مصالح إيران الإقليمية، لأنّ أوساط “الممانعة” تؤكّد أنّ طلب طهران من الرياض فكّ العزلة عن نظام بشار الأسد هو الذي عجّل في التطبيع العربي مع الأخير قبل انعقاد القمّة العربية بأسبوع، فيما لم يكن هذا هو التوجّه قبل أيام من القمّة لو لم تنجح القيادة الإيرانية في إقناع الجانب السعودي بتسريع التطبيع مع الأسد. وهو ما أدى إلى مفاجأة الدول المعنيّة بالموقف حيال دمشق، ولا سيما الأردن ومصر.
3- طهران تنتظر نتائج المفاوضات بينها وبين أميركا في عُمان التي باتت في الأسابيع الماضية مباشرة، والتي يمكن أن تؤدّي إلى تفاهم على الإفراج عن رهائن أميركيين من جهة وعن أرصدة مالية إيرانية في العراق وكوريا، من جهة ثانية، مع وقف تخصيب اليورانيوم العالي النسبة (بنسبة 83.6%). وتستغلّ القيادة الإيرانية الانفتاح الأميركي غير العلنيّ عليها من أجل إبطاء التفاهمات مع الرياض، للتعامل معها من موقع تفاوضيّ أقوى إذا اكتملت فصول التفاهمات مع واشنطن، فتحصل على تنازلات أكبر من القيادة السعودية، ومنها في لبنان. وقد تشمل هذه التفاهمات البلد الصغير، “مثلما كان يحصل في السابق بين واشنطن ودمشق”، على الرغم من محطّات الصدام والصراع بين الدولتين في عدد من الميادين الإقليمية. وفي هذه الحال ستجد الرياض طريقة للانسجام مع التفاهمات الأميركية الإيرانية.
من بين انتظارات قوى الممانعة، وبعض الجهات التي تؤيّد مرشّحها الرئاسي، التي تبرّر الفراغ المديد، أن يصبح الجانب السعودي أكثر اقتراباً من خيار فرنجية
التهدئة هي حدود الاتّفاق الإيرانيّ السعوديّ
إلا أنّ هناك قراءة مختلفة لواقع العلاقة السعودية الإيرانية وما ستؤول إليه، من زاوية فهم خلفيّات الموقف السعودي في تفسير ابتداع حجج الانتظار والتأجيل وإضاعة الوقت قبل إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان، حسب بعض الأوساط اللبنانية والمصادر الإقليمية، يمكن تلخيصها بالآتي:
1- البطء في انعكاسات الاتفاق السعودي الإيراني على الأزمات الإقليمية التي تعني الطرفين، ومنها أزمة لبنان، يعود إلى توافق بينهما على أن تكون البداية من العلاقة الثنائية الأمنيّة والاقتصادية والسياسية لأنّ جوهر اتفاقهما يقوم على اعتماد سياسة مشتركة في التهدئة في الإقليم في مرحلة أولى من دون أن يعني ذلك التوصّل إلى اتفاقات ناجزة. وإذا كان هذا صحيحاً فإنّ استمرار التباعد، بل التصادم، في عدد من الميادين، بما فيها خروقات التهدئة في اليمن واستمرار “حرس الثورة” الإيراني في مدّ الحوثيين بالسلاح وتعثّر الهدنة في بعض الحالات، يعود إلى أنّ كلّاً منهما يتفهّم إبقاء المرحلة الأولى من العلاقة تحت سقف التهدئة تمهيداً للحلول لاحقاً. وسبق للجانب الإيراني أن أقرّ بأنّ الخلافات في الأزمات الإقليمية يجب ألّا تمنع مواصلة مسار تطوير العلاقات الثنائية.
صبر سعوديّ على التحوُّلات الإيرانيّة؟
2- هناك من أسرّ للجانب السعودي بأنّ وقف أنشطة طهران وأدوارها في الإقليم التي كانت تمارسها وفق مبدأ تصدير الثورة، لن يؤتي ثماره قبل أن يحصل التغيير في القيادة الإيرانية، الذي يرتبط بالصيغة السياسية الداخلية في طهران، التي سترث مرشد الثورة السيد علي خامنئي. تذهب النصيحة إلى دعوة الجانب السعودي إلى أن يكون صبوراً في توقّعاته لتغيير سلوك طهران الإقليمي نظراً إلى ترجيح قيام تركيبة تعيد النظر بسياسة تصدير الثورة، بسبب قناعة عميقة في دوائر الحكم الإيراني بأنّ على طهران أن تلتفت إلى التنمية الداخلية والاندماج الإقليمي، وذلك بعدما حال انغماسها في أزمات الإقليم دون تقدّمها الاقتصادي ودون الإفادة من مواردها.
تعيش الرياض في مناخ مشابه يقضي بتكييف سعيها إلى الاستقرار الإقليمي مع هدف تحقيق مشاريعها المتوسطة والبعيدة المدى الطموحة للتحديث والتنمية المواكبة للعصر. أمّا المتاح في هذه المرحلة فهو محاولة تدريجية لتفكيك العِقد التي تقف في وجه هذا الهدف المزدوج. لذلك تبدو الرياض متساهلة مع إيران في بعض الحالات، لكن من دون أن يعني ذلك التسليم بنفوذ طهران الإقليمي، بما في ذلك داخل لبنان.
على الرغم من جرأة الرياض في عقد الاتفاق مع إيران برعاية صينية، في سياق سياستها الجديدة القائمة على تنويع علاقاتها الدولية بالتناغم مع التحوُّلات في مواقع القوى الدولية الكبرى، ليس في حسابها أن تخوض سياسة منفصلة تماماً عن السياسة الأميركية في المنطقة والعالم. بل هي تطمح إلى شراكة جديدة مع الولايات المتحدة تقوم على اتفاقات استراتيجية تنسجم مع التطوّرات على المسرح الدولي. وتدرك قيادتها أنّ تنويع علاقاتها لا يغنيها عن التعاون مع واشنطن في التعاطي مع الأزمات الإقليمية.
إقرأ أيضاً: الحوار الوطنيّ كذبة ما لم يكن حول الحياد
عدم جدّيّة أميركا في مساعدة دول الخليج على مواجهة التهديدات الخطرة التي تعرّض لها أمنها، دفع إلى تمايزات بين الرياض وواشنطن. لكنّها لا تلغي القناعة بأنّ للأخيرة سياسات شديدة التأثير في الأزمات الإقليمية، خلافاً لتصرّف البعض القائم على أنّ أميركا تنسحب من المنطقة، أو أنّ الصين حلّت مكانها في قيادة الاقتصاد العالمي، أو أنّ طهران يمكنها منفردةً تقاسم النفوذ مع واشنطن دون الآخرين.
3- يبقى بعيداً عن الواقع الظنّ أنّ الرياض ستهمل لبنان بالكامل. فهي تملك فيه نفوذاً، مشابهاً لنفوذ أميركا وإيران، ولها دورها التاريخي في صناعة سياسته. ويصعب على واشنطن وطهران أن تسعيا إلى إرساء حلول داخلية بمعزل عنها.