دخل القوقاز في الأيام الأخيرة تحت تأثير حالات مشابهة لعوارض زهرة “عَبَّاد الشَّمْس”، التي تميل برأسها مع دورة الشمس. وبات يمكن أن تساعد تلك البقعة الجغرافية الحسّاسة في الكشف عن وجوه اللاعبين الإقليميين وأهدافهم الحقيقية في لعبة الكرّ والفرّ هناك.
وهذه هي معركة قره باغ الثالثة تكرّس انتهاء دور آليّة مينسك الروسية الأميركية الفرنسية التي تشكّلت في عام 1992 بإشراف منظمة الأمن والتعاون الأوروبي للتوسّط في الملفّ، ومقدّمة لتحوّل الطاولة إلى ثنائية روسية تركية بانتظار أن تتحوّل إلى رباعية بعد جلوس أذربيجان وأرمينيا وتحقيق حلم إيران بجعلها خماسية خلال بحث خطط تفعيل الممرّات التجارية في جنوب القوقاز.
نحن أمام معادلات جديدة في القوقاز: أرمينيا لن تحارب أذربيجان من أجل قره باغ. إيران لن تحارب أذربيجان من أجل جنوب القوقاز ولن تدخل في مواجهة مباشرة مع تركيا ما دامت تواجه واشنطن هناك.
هُزم باشينيان مرّتين في قره باغ، لكنّه ينتصر في يريفان من خلال بقائه على رأس الحكومة حتى اليوم على الرغم من كلّ هذه الضربات
ذكّرنا الإعلامي التركي فاتح التايلي قبل أيام بحكاية توصيف الجمل: “إذا شاهدت من البعيد سناماً يتحرّك خلف رقبة طويلة ويشبه الجمل فهو الجمل بعينه ولا ضرورة للتشكيك أكثر من ذلك”.
فما الذي جرى هناك في الأيام الأخيرة؟
شنّ أذربيجان عملية عسكرية تحت عنوان “مكافحة الإرهاب”. سرعان ما انتهت بنجاح بعد 24 ساعة، هزمت خلالها الانفصاليين الأرمن في إقليم قره باغ. هؤلاء استسلموا لشروط العاصمة الأذربيجانية باكو، وسلّم المقاتلون أسلحتهم وغادروا عائدين إلى عاصمة أرمينيا يريفان، وسهّلوا وصول المساعدات إلى المحتاجين.
قوات السلام الروسية الموجودة هناك منذ 3 سنوات هي التي أشرفت على تنفيذ التفاصيل وثبّتت الدور والنفوذ الروسيَّين مرّة أخرى في جنوب القوقاز. فيما العرض الروسي لباكو وأنقرة لا يمكن مقاومته. فهو يمنح أذربيجان فرص حسم ملفّ قره باغ كما تشاء. ويمنح أنقرة فرصة الجلوس إلى طاولة المفاوضات وهي أقوى لإنهاء خلافاتها مع يريفان. هذا إلى جانب ما ستحصده أنقرة من جوائز وهدايا في جنوب القوقاز تقدّمها لها باكو بعد مساعدتها على حسم المعركة واسترداد أراضيها.
من يدفع الثمن هو رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان الذي غامر في العام المنصرم عبر محاولة تجيير الحرب في أوكرانيا وانشغال روسيا بها لمصلحته من خلال الانفتاح على أميركا والاستقواء بفرنسا.
فما الذي أوصل باشينيان إلى هنا؟
حتماً أوّل من رفع الراية البيضاء هو رئيس حكومة أرمينيا باشينيان، بعدما خاب أمله بمن راهن عليهم في تسجيل اختراق سياسي ما. غامر بتحدّي روسيا الملتهية بالحرب في أوكرانيا. ثمّ غامر بإعلان قرار تنويع السياسات والتخلّي عن تسليم سلّة البيض بأكملها لموسكو. هو الذي وصل إلى السلطة على ظهر جواد الثورة الشعبية في عام 2018 كفارس منقذ.
وها هو يتخلّى عن أرمن قره باغ بعدما تخلّت روسيا عنه. فهل يُسقطه أرمن يريفان من أجل أميركا وهو الذي حاول أن يرضي واشنطن من خلال خطوات عديدة:
– أجرى مناورات عسكرية مشتركة على مقربة من الحدود الروسية.
– دَعمَ قرار تحرّك الغرب باتجاه محاسبة روسيا أمام محكمة الجزاء الدولية بسبب غزوها لأوكرانيا.
– وفتح الطريق أمام دعوة رئيس اللجنة الأوروبية لتوسيع حلف شمال الأطلسي أمام أرمينيا هذه المرّة.
– هنّأ سامفيل شهرامانيان الرئيس الفائز في انتخابات شكلية داخل المناطق التي تسيطر عليها أرمينيا في إقليم ناغورني قره باغ في مطلع أيلول المنصرم، فأغضب باكو ودفعها إلى اعتبار ما جرى انتهاكاً للدستور وقواعد القانون الدولي يستدعي تسريع عمليّتها ضدّ الإرهاب بهدف إرساء النظام في قره باغ؟
نحن أمام معادلات جديدة في القوقاز: أرمينيا لن تحارب أذربيجان من أجل قره باغ. إيران لن تحارب أذربيجان من أجل جنوب القوقاز ولن تدخل في مواجهة مباشرة مع تركيا ما دامت تواجه واشنطن هناك
أردوغان يهدّىء: عملية أمنية
يحاول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تبسيط المسألة وتخفيف ارتداداتها بقوله إنّ العملية التي نفّذتها القوات الأذربيجانية في إقليم قرة باغ أخيراً، لا علاقة لها بدولة أرمينيا ورئيس وزرائها، بل “هي عملية ترتبط بالمجموعات المسلّحة الأرمنية غير القانونية في قره باغ. لقد أثارت محاولتهم إجراء انتخابات رئاسية بطريقتهم الخاصة انزعاجاً كبيراً لكلّ من باشينيان وأذربيجان على الرغم من كلّ التحذيرات”.
إمّا أن يقدّم باشينيان تنازلات جديدة واسعة لأنقرة ويدعم اقتراحها عقد اجتماع ثلاثي حول قضية قره باغ، ويمكن توسيعه ليكون رباعياً بمشاركة روسيا، وتتبعها تنازلات أخرى لروسيا، من بينها التراجع عن سياسة الباب المفتوح مع واشنطن، وإمّا أن يتحمّل مسؤولية ما ستفعله موسكو لإزاحته عن كرسي الحكم إذا لم تدخل أنقرة على خطّ الوساطة لإبقائه في مكانه.
يأخذ بوتين بعين الاعتبار مدى حاجته إلى تركيا إلى جانبه في هذه الظروف الصعبة التي يمرّ بها، وضرورة إرضائها في ملفّات التجارة والطاقة والسياحة ومشاريع الاستثمار الاستراتيجي البعيدة المدى، وعدم استهداف التقارب التركي الآذري في القوقاز. ويعرف أيضاً أنّ ما جرى في قره باغ قبل أيام يحمل معه رسائل ردّ تركي مباشر على سياسة واشنطن الأرمنية التي وحّدت تركيا وروسيا ضدّها.
إيران: قره باغ أذربيجانية
بعكس سياساتها ومواقفها قبل 3 أعوام، أعلنت إيران اللاعب الإقليمي الآخر في جنوب القوقاز باكراً أنّ قره باغ أذربيجانية وأنّ ما يجري هناك هو شأن داخلي. وهي سعيدة لخسارة أميركا الرهان في قره باغ، وسعيدة باحتمال دعوتها إلى طاولة تركية روسية تبحث تقاسم النفوذ هناك بدلاً من خيار الرهان الخاسر على يريفان بعد الآن.
في هذا السياق لا يريد باشينيان أن يرمي المنشفة أرضاً ويستسلم في مواجهته مع رئيس أذربيجان إلهام علييف على الرغم من كلّ الضربات الموجعة التي يتلقّاها. والرئيس الآذري لا يريده أن يفعل ذلك وينهي الملاكمة بالضربة القاضية. وقد لا يتردّد كثيراً في قبول تقديم العون لباشينيان لإنقاذه من الوقوع بيد المتشدّدين الأرمن بعدما حسم المعركة الثالثة في إقليم قره باغ خلال ساعات فقط. باشينيان بالنسبة لعلييف هو البنك الذي يقدّم أفضل سعر فائدة لباكو بالمقارنة مع اللاعبين الأرمن الآخرين، فلماذا يتخلّى عن الدجاجة التي تبيض ذهباً؟
هُزم باشينيان مرّتين في قره باغ، لكنّه ينتصر في يريفان من خلال بقائه على رأس الحكومة حتى اليوم على الرغم من كلّ هذه الضربات. فهل ينجح في مواصلة مسيرته السياسية والحزبية بعد الآن؟
إقرأ أيضاً: حرب أعصاب تركيّة – أميركيّة!
ما أفسد خطة باشينيان هو توحّد الأطراف الثلاثة الروسية والتركية والإيرانية ضدّه هذه المرّة، وهو يحاول إبعاد “الدبّ” الروسي عن الكرم القوقازي واستبداله بالنسر الأميركي في مناورات عسكرية مشتركة على مقربة من ساحة النفوذ الروسية.
فقد اعتاد رئيس الوزراء الأرمني قراءة لافتات “الخائن باشينيان” وسماع نداءات مشابهة كلّما “دقّ الكوز بالجرّة” في قره باغ. انتهى الملفّ وحان وقت المحاسبة السياسية في يريفان. فكيف سيتصرّف حيال خصومه السياسيين في الداخل والدياسبورا الأرمنية التي تغذّي يريفان سياسياً واقتصادياً؟
اختار باشينيان التضحية بقره باغ مقابل إنقاذ أرمينيا، فهل تغفر له الدياسبورا هذه الخطوة؟