أحمد غصين يخرق “جدار صوت” حرب تموز لإيقاظ الموتى

مدة القراءة 4 د


خرقت طائرة فيلم أحمد غصين “جدار الصوت” وكانت لا تزال على المدرج.

فقبل شهور خرج دويّ كبير حول الفيلم، لكن يتبيّن بعد مشاهدة الفيلم أنّ الدوي ناتج عن خرق جدار الصوت، ليس إلا. ويبدو أنّ الانتقادات للفيلم، على خلفية تصوير بعض مشاهده في منطقة الزبداني في سوريا، لإسقاطها على الدمار الذي خلّفته إسرائيل في حرب تموز، كانت أسرع من الصوت. وهو ما تسبب بالدويّ. والانتقادات مستندة إلى معطيات أقرب إلى العسكرية منها إلى المدنية، ولهذا ربما حينما يقلع الفيلم بركّابه، حاملاً عنوان “جدار الصوت”، يطير بسلاسة كما الطائرات المدنية، ولا يتسبب بإقلاق راحة الركاب ولا من تمرّ الطائرة في أجوائهم. وفيلم غصين طائرة ضخمة لكنّها لا تحمل إلا بعض الركاب القلائل. فيلم يتحدث عن الحرب من دون جبهات. وعن الصراع من دون وجود طرفين منظورين. فقط بيت صغير يختبئ فيه مجموعة من الأشخاص ويدخل إليه الإسرائيليون ليتحصّنوا في طبقته العلوية، غافلين عن وجود الشخصيات الرئيسية للفيلم في الطبقة السفلية، تحت الأرض. هناك، في الأسفل، ليس ملجأً، بل هو أقرب إلى قبر. الكلب البوليسي الإسرائيلي يدخل إلى هناك، فيدّعي المختبئون أنّهم أموات. يبدو لوهلة أنّ المشهد فيه خطأ بنيوي، إذ كيف تنطلي كذبة كهذه على كلب بوليسي مدرّب. لكنّهم بالفعل أموات. حتّى وهم يتحرّكون وينتقلون من غرفة الى أخرى، ويتحدثون ويخافون ويغضبون، يظلّون أمواتاً. يقدّمهم الفيلم كأموات لأنّ حياتهم تبدو بلا معنى. وهم يكتشفون هذا الأمر في أوّل تماس لهم مع الموت الذي يسمعون خطواته في الأعلى.

القصة تدور حول مروان الذي يعود إلى القرية اثناء حرب تموز، بعد انقطاع الاتصال بوالده، ليحاول العثور عليه. وفي هذا إسقاط سياسي، كما يبدو جلياً، إذ إنّ مروان يبحث عن أب ضائع، هو اليسار اللبناني. ربما يكون والد مروان هو “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)”. لكنّه ضائع. خرج ولم يعد. والحرب مندلعة. يجد مروان نفسه مع أصدقاء وأقارب والده (الراحل عادل شاهين، بطرس روحانا، سحر منقارة، عصام بو خالد) عالقين في المنزل، في انتظار “الشباب” لإنقاذهم. والشباب هنا بوضوح هم شباب “حزب الله”، فلا وجود لغيرهم على ساحة الصراع مع العدوّ. والعدوّ في الأعلى، غير مرئي، لكنّنا نشعر بوجوده. وجوده بين شخصيات الفيلم واضح أكثر من حضوره في الأعلى. العدوّ معهم في الغرفة. في عدائيتهم تجاه بعضهم البعض، في خوفهم، وفي نظرتهم إلى الخارج عبر النافذة. من النافذة يظهر العدو كقنابل مضيئة. كضوء قادر على إنارة عتمة الداخل وكشفها على حقيقتها. الصوت، صوت القذائف والطائرات والرصاص يحضر أيضاً كمنبّه، يهزّ الشخصيات وحضورها، ويخرج قلقها واضطرابها.

فيلم غصين طائرة ضخمة لكنّها لا تحمل إلا بعض الركاب القلائل. فيلم يتحدث عن الحرب من دون جبهات. وعن الصراع من دون وجود طرفين منظورين

العدوّ هو الصوت وكذلك “الشباب”. كلاهما صوت. وشخصيات الفيلم صدى. ربما يحاول الفيلم أن يقول لنا إنّ الحرب فيها شيء من المساكنة بين الأعداء في بيت واحد، لكن في طبقتين. يحاول أن يرينا الفارق بين من قاتل العدو سابقاً وبين من يقاتله اليوم. أحد أصدقاء والده يعرف العبرية. يسمع الأصوات من أعلى ويترجم. يتواصل مع العدو بطريقة غير مباشرة. يوصل صوته إلى الأسفل، ويوصله عبر الكاميرا إلينا. هذا العدو الخفي الذي لا يعنينا شكله بقدر ما يعنينا صوته وضوءه. شيء أشبه بمواجهة مع الذات الميتة والمجرّدة من السلاح والحياة، التي لا يشمّ فيها الكلب البوليسي الحياة، ولا يشمّ فيها خطراً حتّى. المسجونون في الداخل قد يكونون اللبنانيين عموماً. مسجونون بين العدو في الأعلى، و”الشباب” في الخارج، الذين يحاصرون العدو، لكنهّم في الآن عينه يحاصرون شخصيات الفيلم. وحده والد مروان هرب من السجن. من سجن المنزل ومن سجن الفيلم. هرب من النقاش الذي تطرحه الشخصيات حول الصمود أو الهروب. مروان يصرخ بهم: “شو في هون غير الموت؟”.

إقرأ أيضاً: خالد الهبر بصوت جارح هذه المرّة: “بدي إحكي”!

أتى للبحث عن أبيه لكنّه اكتشف أنّه علق مكانه، وأنّ عليه هو أيضاً الهرب من الموت، حتى ولو كان الثمن هو الموت. والموت الأوّل الذي يقصده مروان ليس جسدياً. هو موت فكري وثقافي واجتماعي. فيما الموت الآخر، في الخارج، جسدي. تماماً كالفارق بين القصف الفعلي وجدار الصوت. القصف الفعلي قاتل ومميت. أما “جدار الصوت” فيوقظ الموتى – الأحياء من موتهم.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…