في كلّ مرّة يقترب موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية، تشهد سياسة البلاد الخارجية إعادة ترتيب أولويّات ويتحوّل مستشارو الرئيس إلى فريق عمل له أجندة واضحة: استكمال الملفّات التي يمكن للرئيس أن يضعها تحت خانة “الإنجازات” التي حقّقها، وتبريد الأزمات المحتملة واحتوائها.
في هذا الإطار يتمّ التركيز على القضايا الكبرى التي يمكن أن تُعتبر انتصاراً ويمكن للرئيس أن يجاهر في المناظرات التلفزيونية مع خصمه الجمهوري، الذي من المحتمل أن يكون الرئيس السابق دونالد ترامب، بأنّها من إنجازاته.
هنا يبرز اجتياح روسيا لأوكرانيا الذي وسم ولاية بايدن الأولى. فمع تعثّر الحملة الروسيّة العسكرية تطوَّر الموقف الأميركي ليصبح أكثر وضوحاً وعلانيةً في تأييده لأوكرانيا، وتزايد معه الدعم مادّياً وتسليحاً، إضافة إلى تنفيذ عدد من البرامج الاستخبارية والنوعية غير المعلنة التي تستنزف الجيش الروسي وإمكانيّاته. ويتحدّث دبلوماسيون في العاصمة الأوكرانية عن قيادة أميركية مباشرة للعمليات العسكرية والنفسيّة وعن تدريب فرق عسكرية تعمل على زعزعة معنويّات الجيش الروسي. ومع تزايد الهزائم العسكرية الروسيّة على الجبهة، انفتحت الشهيّة الأميركية على إمكانية توجيه هزيمة عسكرية حاسمة لموسكو وعدم الاكتفاء بإضعافها، وهو ما سيُزعزع روسيا عسكريّاً ويجعل من الصعب على بوتين قيادة روسيا في المستقبل.
في كلّ مرّة يقترب موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية، تشهد سياسة البلاد الخارجية إعادة ترتيب أولويّات ويتحوّل مستشارو الرئيس إلى فريق عمل له أجندة واضحة
“فاغنر” تنتخب بايدن
من جهة أخرى، جاء تمرّد قائد فرقة فاغنر يفغيني بريغوجين ليعزّز القناعة الأميركية بأنّ هزيمة بوتين أصبحت وشيكة. فخبرة بايدن الطويلة في السياسة الخارجية تخوّله تبنّي النجاح في إدارة الأزمة الأوكرانية، لكنّ التطوّرات الداخلية الأخيرة داخل روسيا، ولا سيما العصيان العسكري، سيختبر حنكة بايدن في الأسابيع القليلة المقبلة في كيفيّة التعاطي مع بلد يمتلك ترسانة نووية ضخمة شارف على دخول حرب أهليّة.
على الرغم من أهميّة التحدّيات على الساحة الدولية، يعلم الرئيس الأميركي أنّ الوضع الاقتصادي المحلّي يبقى العنوان الأبرز الذي يؤثّر بشكل كبير على قرار الناخب الأميركي. وقد استطاعت الإدارة الأميركية حتى الآن احتواء التضخّم، وتشير معدّلات البطالة إلى أنّ الولايات المتحدة تجنّبت ركوداً اقتصادياً كان ليشكّل تهديداً كبيراً لآمال بايدن بالفوز بولاية ثانية.
هنا تبرز أهمّية المواجهة الاقتصادية والتجارية مع الصين. لكنّ هذه المواجهة ليست حكراً على إدارة بايدن، إنّما في عهده بدأت تتحوّل إلى أولوية وهاجس أميركيَّين يأخذان أشكالاً متعدّدة حسب ساحات المواجهة. ومن الصعب على بايدن إعلان انتصار واضح في المدى المنظور، لكنّ احتواء وإبطاء التعاظم الاقتصادي الصيني سيسجَّل إيجابياً لمصلحة بايدن.
الهند وإيران: تبريد واحتواء
جاءت زيارة رئيس وزراء الهند مودي والحفاوة التي استقبله بها بايدن، تأكيداً لأولوية السياسة الأميركية في مواجهة واحتواء الصين والعمل على تشكيل تحالف المحيطين الهندي والهادئ لاحتواء الصين اقتصادياً وعسكرياً. ويستطيع بايدن أن يقول إنّه رسم سياسة المواجهة والاحتواء للصين التي تشكّل التهديد الحقيقي والوحيد للزعامة الاقتصادية الأميركية في السنوات المقبلة.
هناك أيضاً القضايا التي تمثّل فرصاً سانحة ويمكن تحقيق اختراق فيها في حال صرفت الإدارة الأميركية جهداً دبلوماسياً لإنجازها، ويمكن بالتالي استثمارها انتخابياً لتعزيز فرص إعادة انتخاب الرئيس.
تحدّثت مصادر البيت الأبيض عن إشارات تلقّتها من المملكة العربية السعودية توحي باستعداد الرياض للخوض في إمكانية التطبيع مع إسرائيل
هنا يعود الملفّ النووي الإيراني إلى الظهور بعد فشل الطرفين في إحياء الاتفاق السابق. هناك قناعة لدى فريق بايدن بإمكانية تحقيق اختراق يؤدّي إلى تسوية مع إيران تكون أقلّ من اتفاق شامل وتمثّل تسوية انتقالية تزيل صاعق التفجير وتحول دون أزمة مع إيران. ويكثر الحديث عن إمكانية التوصّل إلى تسوية تتعهّد فيها إيران وقف تخصيب اليورانيوم بنسب عالية تجعلها قريبة من امتلاك قدرات نووية عسكرية مقابل الإفراج عن الأرصدة الإيرانية المجمّدة في عدد من العواصم نتيجة العقوبات الأميركية. وتكون إدارة بايدن من خلال ذلك قد حيّدت الملفّ النووي بدل أن يتحوّل إلى أزمة على مشارف الانتخابات الرئاسية. وفي هذا الإطار تكون إدارة بايدن قد عمدت إلى دبلوماسية التبريد لا إلى المبادرات وسياسة الاحتواء فحسب.
“التطبيع” السعودي.. هدية لبايدن؟
في السياق نفسه، تحدّثت مصادر البيت الأبيض عن إشارات تلقّتها من المملكة العربية السعودية توحي باستعداد الرياض للخوض في مفاوضات حول إمكانية التطبيع مع إسرائيل. وتبرز هنا الزيارات المتكرّرة لمستشار الأمن القومي جايك ساليفان للرياض ولقاءاته مع وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان. لكنّ البيت الأبيض يحاول أن يخفض من سقف التوقّعات والعمل بهدوء حتى لا يفسَّر أيّ تعثّر في التوصّل إلى اتفاق سعودي إسرائيلي بأنّه فشل لإدارة بايدن.
تحت شعار تبريد الملفّات وتجنّب الأزمات في زمن الحملات الانتخابية الرئاسية، يبقى هاجس الإدارة مفاجآت الساعات الأخيرة. وهنا تتّجه الأنظار إلى الشرق الأوسط وما يحصل في الأراضي الفلسطينية واحتمال أن تتطوّر المواجهات إلى حرب واسعة في المنطقة تجبر الإدارة الأميركية على لعب دور الإطفائي.
إقرأ أيضاً: تحذير: الـC.I.A تتدخل بقوّة في سياسات المنطقة من الآن (1/2)
على الرغم من أهميّة السياسة الخارجية في السباق الرئاسي، تبقى الأوضاع الداخلية العامل الحاسم في ترجيح كفّة أحد المرشّحين. يعطي تاريخ الانتخابات الرئاسية أفضليّة للرئيس الموجود في البيت الأبيض لأنّ الناخب الأميركي اعتاد أن يعيد انتخاب الرئيس لولاية ثانية إلا إذا قرّر معاقبته لارتكابه أخطاء، وخصوصاً في المجال الاقتصادي، وهذا ما حصل مع الرؤساء السابقين جورج بوش الأب، جيمي كارتر، وأخيراً دونالد ترامب الذي أساء التعامل مع أزمة جائحة كورونا.
*خبير في الشؤون الأميركية والدولية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@