يروي الأديب الفرنسي ألبير كامو أسطورة سيسيفوس، فيقول إنّ الآلهة اليونانية حكمت عليه بأن يدحرج صخرة إلى أعلى التلّة، حتى إذا وصل إلى القمّة، تفلت منه وتعود إلى الأسفل، فيعاود دحرجتها إلى فوق من جديد، وهكذا حتى نهاية الزمن!!
مع ذلك كان سيسيفوس سعيداً لأنّه كان في عمل دائم وفي تحدٍّ دائم لقدرته على الاستمرار في دحرجة الصخرة إلى أعلى التلّة، حتى أصبح الفشل في الوصول إلى القمّة وعدم الاستقرار فيها حالةً دائمةً وحافزاً له على الاستمرار.
سيسيفوس اللبناني ليس أسطورة. إنّه حقيقة حيّة. فهو يعمل منذ أكثر من مئة عام على دحرجة صخرة الوحدة الوطنية إلى قمّة أعلى تلّة في الشرق الأوسط. حتى إذا وصل إليها، أو اقترب منها، تفلت منه، وتتدحرج إلى القاعدة من جديد. فيعود هو ويحملها إلى الأعلى مرّة جديدة.. وجيلاً بعد جيل.
وصلت صخرة الوحدة الوطنية إلى القمّة مرّات عديدة. إلا أنّها لم تستقرّ عليها. ففي كلّ مرّة كانت الصخرة تتدحرج إلى الأسفل من جديد.
لم يتخلَّ لبنان عن مهمّته القدرية، وهي أن يستمرّ في دحرجة صخرة الوحدة الوطنية إلى قمّة التلّة ولو بيدين متعبتين وجسم متهالك
قدر لبنان المعقّد
يبدو أنّ قدر لبنان أشدّ تعقيداً حتى من قدر سيسيفوس، ذلك أنّه في كلّ مرّة كان لبنان يصل بصخرة الوحدة الوطنية إلى القمّة (دولة الرسالة)، كانت الصخرة تفلت منه وتتدحرج إلى الأسفل من جديد، ليجد لبنان أمامه سلسلة من التلال المرتفعة والمتقاربة، بعضها تلال طبيعية، وأكثرها تلال مصطنعة.
ربّما كانت أوّل تلّة هي تلّة عام 1948. في ذلك الوقت، وكما روى لنا المرحوم تقيّ الدين الصلح نقلاً عن الرئيس المرحوم رياض الصلح قوله: إنّ تعامل الرئيس بشارة الخوري معه بدأ يتغيّر منذ ذلك التاريخ!!
من يومها انتشرت سلسلة طويلة من التلال على طول طريق المستقبل اللبناني:
الانقلابات العسكرية في الجارة سورية، و”خشبة” الرئيس السوري الأسبق خالد العضم التي كان يهدّد بها إقفال الحدود مع لبنان لخنقه اقتصادياً، إلى تلّة الوحدة السورية – المصرية، وتلّة صراع البعثين السوري والعراقي، مروراً بتلّة منظّمة التحرير الفلسطينية، وتلّة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، ثمّ تلّة الغزو الاجتياحي وصولاً إلى العاصمة بيروت.. وآخرها تلّة داعش والتطرّف الإرهابي باسم الدين.
اليوم يقف لبنان حاملاً صخرة سيسيفوس فوق كتفيه المتعبتين، محاولاً بصعوبة تسلّق تلّة فشل المنظومة السياسية التي حكمت وتحكّمت بمقدّرات لبنان. أدّى ذلك إلى حفر خندق عميق حول التلّة لم يسبق لسيسيفوس اليوناني أن واجه مثيلاً له. يحاول اليوم سيسيفوس اللبناني دحرجة الصخرة من أعماق هذا الخندق إلى قمّة تلّة الوحدة الوطنية والاستقرار السياسي والاجتماعي.
على الرغم من ذلك لم يتخلَّ لبنان عن مهمّته القدرية، وهي أن يستمرّ في دحرجة صخرة الوحدة الوطنية إلى قمّة التلّة ولو بيدين متعبتين وجسم متهالك.
المهمة التي لا تنتهي
إنّ الوحدة الوطنية مهمّة لا تنتهي، تبدأ بدحرجة صخرتها إلى أعلى القمّة، حتى إذا سقط الصخر بسبب عوامل خارجية تعرف ماذا تريد، وعوامل داخلية لا تعرف ماذا تريد، بادر لبنان إلى حمل صخرة الوحدة الوطنية من جديد. ومن جديد أيضاً يدحرجها إلى أعلى.. مرّة ثانية وثالثة.. حتى نهاية الزمن!!
إقرأ أيضاً: لعبة التوازن بين النموّ وزيادة السكّان
ذلك هو قدر سيسيفوس لبنان. يعرف أنّ خندقه لا ينتهي عند بلوغ قمّة يتعذّر البقاء عليها. ولكنّه يبدأ من هناك للتسلّق إلى القمّة من جديد بعد الهبوط فيه.
بدأت هذه الرحلة في عام 1920، وهي مستمرّة حتى اليوم.. وغداً.
إنّ الوصول إلى القمّة ليس مستحيلاً ولم يكن مستحيلاً. وقد أثبت لبنان ذلك مرّات. ولكنّ المستحيل هو البقاء في القمّة. لماذا؟ الجواب عند سيسيفوس؟!