لماذا يصرّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على رفض مطالب المتظاهرين الفرنسيين بإعادة النظر في قانون رفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64 عاماً؟
ولماذا يعاني الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من نقص في عدد المجنّدين لأداء الخدمة العسكرية في أوكرانيا؟
ولماذا قرّرت اليابان للمرّة الأولى في تاريخها فتح أبواب الهجرة أمام اليد العاملة الأجنبية، الأمر الذي يشكّل خطراً على “الانسجام الاجتماعي” الذي يتميّز به المجتمع الياباني؟
الجواب على هذه الأسئلة، ومثلها كثير، هو: تراجع عدد المواليد. حتى إنّ الأمم المتحدة دقّت ناقوس الخطر بإعلانها أنّه في عام 2025 (أي بعد عامين فقط من الآن) سوف يتراجع عدد المواليد في العالم بحيث يزيد عدد الوفيات على عدد المواليد. وربّما المثال الصارخ على ذلك اليوم هو كلّ من روسيا وإيطاليا.
تخشى فرنسا أن تصبح في وقت قصير مضطرّة إلى دفع التعويضات الاجتماعية المترتّبة على نهاية الخدمة إلى عدد من المواطنين المتقاعدين يفوق عدد المواطنين العاملين المنتجين. وهو أمر يشكّل خطراً ليس فقط على التوازن المالي للدولة، إنّما على التوازن الاجتماعي أيضاً، وفي الدرجة الأولى.
من أجل ذلك يلتزم الرئيس ماكرون وحكومته موقفاً متصلّباً في التمسّك بقانون رفع سنّ العمل سنتين إضافيّتين لتعويض النقص في اليد العاملة المترتّب عن تراجع نسبة المواليد. ويبرّر الرئيس الفرنسي موقفه الرافض لمطالب النقابات العمالية بأنّه يدافع بذلك عن التوازن بين واردات الدولة والتزاماتها، وبالتالي عن التوازن الاجتماعي بين العاملين المنتجين والمتقاعدين الاستهلاكيين.
أدّت التوتّرات السياسية في شرق العالم وغربه إلى زيادة المشكلة تعقيداً. فالاستنفار العسكري الذي يترافق مع التوتّر السياسي يستوجب فرض الخدمة العسكرية على الشباب
يمكن الالتفاف على الصعوبات التي تواجه هذا الأمر باللجوء إلى اليد العاملة الأجنبية. هذا ما تفعله الولايات المتحدة بفتح أبواب الهجرة وتنظيمها حتى أصبح المجتمع الأميركي مجتمعات. وهو ما وافقت عليه اليابان مضطرّة، إلا أنّها لم تجرؤ بعد على تنفيذه، بسبب تميّز المجتمع الياباني بانغلاقه على نفسه.
فمنذ عام 2005 بدأت رحلة التراجع الحادّ في عدد سكّان اليابان. وتتوقّع الدراسات الرسمية أن يتواصل هذا التراجع بحيث ينخفض عدد السكّان إلى 95 مليوناً فقط في عام 2050. أمّا العدد الحالي فهو 130 مليوناً، يشكّل كبار السنّ منهم نسبة خُمس السكّان. وهذه نسبة عالية جدّاً ترهق ميزانية الدولة بسبب دفع التعويضات الاجتماعية عند نهاية الخدمة، وتضعف الاقتصاد الوطني بسبب تراجع نسبة اليد العاملة الشابّة، وهذا ما يخشاه الرئيس الفرنسي في بلاده.
حاولت اليابان معالجة المشكلة بعدما انخفضت اليد العاملة اليابانية بنسبة الخمس في العقد الماضي، برفع سنّ التقاعد (كما تحاول أن تفعل فرنسا اليوم) وبزيادة ساعات العمل. وحاولت تشجيع المرأة اليابانية على الانخراط أكثر في المهن اليدوية. وزادت ساعات العمل المقرّرة. مع ذلك لم تُحلّ الأزمة. فكان “آخر العلاج الكيّ”، كما يقولون، من خلال اللجوء إلى اليد الأجنبية، وهو حلّ يرفضه المجتمع الياباني الذي يتميّز بخصوصية عالية ويعضّ عليها بالنواجز.
أدّت التوتّرات السياسية في شرق العالم وغربه إلى زيادة المشكلة تعقيداً. فالاستنفار العسكري الذي يترافق مع التوتّر السياسي يستوجب فرض الخدمة العسكرية على الشباب. يحدث ذلك على حساب العمل. تواجه اليابان هذه المشكلة بقلق. وتواجهها روسيا بقلق أكبر، بسبب الاستنزاف الذي تعاني منه في أوكرانيا. ولذلك لجأت إلى الاستعانة بالقوات الشيشانية ثمّ بقوات “فاغنر” المرتزقة.
إقرأ أيضاً: انتقام القدر.. بين الهند وبريطانيا
تتمحور واقعة تناقص عدد السكّان في ثلاث مناطق من العالم:
أوّلاً: في وسط وشرق أوروبا (من ألمانيا حتى روسيا).
ثانياً: في دول شمال حوض البحر المتوسط، وخاصة في إيطاليا وفرنسا.
ثالثاً: في بعض أجزاء آسيا، وخاصة كوريا واليابان.
مع تطوّر المجتمعات التقليدية وانفتاحها يتحسّن اقتصادها ويرتفع دخلها ويتراجع اجتماعها ويقلّ إنجابها. وقد ساعدت الثورة الصناعية في زيادة عدد سكّان الكرة الأرضية أربعة أضعاف بين عامَي 1900 و2000.. فهل تساعد الثورة الإلكترونية على قلب الصورة رأساً على عقب؟!