كوسوفو: الفتيل لن يشتعل

مدة القراءة 7 د

تصاعدت تصريحات كلّ من قادة بلغراد من ناحية وقادة برشتينا من ناحية أخرى، وترافق التصعيد الكلامي مع تظاهرات شعبية من قبل الأقلّية الصربية في كوسوفو (120 ألفاً) من جهة، والأكثرية الألبانية (1.8 مليون) من الجهة المقابلة، ووضعت الحكومة الصربية قوّاتها العسكرية على حدودها مع كوسوفو في حالة تأهّب واستنفار.
منذ 2008، وهو عام استقلال كوسوفو عن الاتحاد اليوغوسلافي، تشهد منطقة شمال هذا البلد المتداخلة مع الأراضي الصربية اضطرابات ومواجهات متكرّرة ما بين القوميّتين المتجاورتين، فيستغلّ كلّ طرف أصغر الأشياء وأتفهها ليصعّد من تحرّكاته، ومنها الآتي:
– ألزمت حكومة برشتينا السيّارات العاملة على أراضيها بأن تحمل لوحات كوسوفو، فرفضت الأقلّية الصربية ذلك وأصرّت على إبقاء اللوحات الصربية فأُغلقت الحدود بين البلدين.
– أعلنت سلطات برشتينا إجراء انتخابات بلدية على كلّ أراضيها، لكنّ الأقلّية الصربية قاطعتها بتشجيع من بلغراد.
– نتيجة للوساطات الأوروبية تمّ تأجيل الانتخابات المحلّية مرّتين لإفساح المجال لمشاركة الأقلّية الصربية، غير أنّ الأخيرة استمرّت على موقفها المقاطع.
– خلال شهر نيسان الفائت جرت انتخابات في أربع مدن شمالية فازت فيها الأكثرية الألبانية فتمنّعت الأقلّية عن الاعتراف بنتائجها على الرغم من المقاطعة التي مارستها.

تتصاعد الدعوات القومية الشعبوية المتطرّفة في صربيا الصادرة عن رؤوس حامية، لكنّ موجاتها العاتية ليس من السهل أن تجرّ بلغراد إلى حرب جديدة في البلقان

– لم تتمهّل حكومة برشتينا في منع الفائزين بالانتخابات من تسلّم مهامّهم حتى تتبلور نتائج المساعي الأوروبية، بل دفعتهم إلى تسلّمها وساندت قوات الشرطة أعضاء البلديات في اقتحام مباني البلديّات.
– حاصر الصرب المباني فواجهتهم قوات الشرطة ووقعت بينهم إصابات.
– تدخّلت قوات الفصل المشتركة التابعة للناتو (KFOR) للفصل بين الفريقين، فقاومها الصرب وألقوا عليها قنابل مولوتوف وأحرقوا بعض آليّاتها.
– لم تكن الانتخابات البلدية ومقاطعتها ولا مسألة لوحات السيارات أوّل العنقود أو آخره، بل ترافق ذلك أيضاً مع استقالات صربية جماعية من الشرطة والقضاء والإدارة من دون إعلان أيّ سبب وجيه. وبدا الصرب وكأنّهم يرفضون مبدأ المواطنيّة فيغلّبون الانتماء القومي الانفصالي عليه.

الجذور العميقة للأزمة
هذا على صعيد الأسباب الحديثة العهد غير أنّ التفتيش عن الجذور العميقة يوصلنا إلى أسباب تعود تاريخياً إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما قام جوزيب بروز تـيـتـو على رأس “المقاومة الشعبية” المنتصرة على النازية بضمّ كلّ من كوسوفو وكرواتيا وسلوفينيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك تحت راية الاتحاد اليوغوسلافي. ولا بدّ من التذكير بالدعم السوفياتي الذي تلقّاه تـيـتـو طوال حكمه لمنع هذه الدول من الاستقلال عن الاتحاد اليوغوسلافي حتى سقط جدار برلين وانتهت الحرب الباردة. طوال هذه المدّة كانت نيران القوميّات المتعدّدة المنضوية متّقدة في النفوس من دون أن تقوى على نيل استقلالها حتى انهار المعسكر الاشتراكي فكرّت سبحة الاستقلالات.
لا شكّ أنّ الحرب الروسية على أوكرانيا ونتائجها دفعت بموسكو إلى تسعير هذه الخلافات، إذ أعلن وزير خارجيّتها سيرغي لافروف دعمه للصرب للحصول على حقوقهم، مشيراً من باب التهديد إلى أنّ “انفجاراً كبيراً يلوح في الأفق في قلب أوروبا”. فقد تقصّدت روسيا التسعير وصبّ الزيت على نار إشكاليّات أوروبا والمشاكل الداخلية بين دولها وشعوبها لمفاقمة تقسيم أوروبا ولخلق جبهة عسكرية جديدة محتملة تجبر أوروبا على الاهتمام بها فتخفّف عمليّاً دعمها لكييف فيخفّ العبء عن قوات موسكو في أوكرانيا.

يدرك الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش مدى الآثار المدمّرة عليه وعلى بلده، لذا يبدو عليه التخبّط وعدم الجرأة على الانجرار إلى تحالف مع موسكو معاكس للتوجّه الأوروبي العامّ

لكن فات الكرملين الساعي إلى تسعير الخلاف أنّ سيناريو دعمه للانفصاليين الأوكران لن يُكتب له النجاح في البلقان لعدم وجود حدود مشتركة بين روسيا وصربيا، وبسبب أنّ التمادي في هذا الاتجاه سيعرّض للخطر علاقاته الضرورية له كمثل العلاقة مع تركيا واليونان وعلاقته مع القوميين الأوروبيين المتشدّدين في فرنسا وإيطاليا وهولندا والمجر، لا بل سيجعل هذه الدول تواجهه بضراوة.
من ناحيتها أعربت واشنطن مراراً عن رفضها إذكاء التوتّر، واستنكرت ما قام به الفريقان معاً، فاعتبرت أنّ إقدام كوسوفو على تسلّم مباني البلديات لم يكن ضرورياً ولم يحِن وقته، وبالمقابل رفضت تصدّي الصرب لقوات الحلف الأطلسي (KFOR) وإلحاق الأذى ببعض الجنود. إلا أنّها تشدّدت بوجه الصرب ودعت رئيس صربيا ألكسندر فوتشيتش إلى أن لا يتمترس خلف انتخابات بلديات زفيتشان وميتروفيتسا وغيرهما لابتزاز الغرب، موجّهة كلاماً صارماً إليه قالت فيه إنّه “لا يمكنك الجلوس على كرسيين معاً في آن واحد”، فإمّا أن تلتصق بأوروبا والغرب أو أن تكون في صفوف بوتين.
تعي أوروبا أكثر من واشنطن أنّ تطوّر النزاع بين صربيا وكوسوفو سيكلّفها غالياً. لذا تعمل على الضغط على كلّ من بلغراد وبرشتينا معاً. فظهرت أوروبا في لقاءات القمّة التي رعتها في أوهريد بمقدونيا وفي بروكسيل جادّة في سعيها إلى تقريب وجهات النظر بين البلدين، وإلى حلّ المسائل العالقة بينهما بالطرق السلمية.

العصا والجزرة
تلوّح أوروبا بالعصا والجزرة للبلدين معاً لكي ترى السياسة الأوروبية النور. فعلى الرغم من إقدام بروكسل وواشنطن على تحريك القوة العملانية التابعة للقوات المشتركة (KFOR) وإصدار أوامر لها بالتشدّد الأمني مع الفريقين، فإنّ الاتحاد الأوروبي يمهّد لتسهيل دخول البلدين كيانه وإن كانت بلغراد لم تذهب شوطاً بعيداً في إجراء الإصلاحات الداخلية المطلوبة منها لتصل إلى مرحلة القبول النهائي. ومن جهتها، تسعى بروكسل إلى تعزيز التكامل الإقليمي في البلقان وإلى إيجاد صيغ مرنة أقلّ تشدّداً من صيغة الاتحاد الأوروبي كمبادرة صيغة “البلقان المفتوحة”.
تتصاعد الدعوات القومية الشعبوية المتطرّفة في صربيا الصادرة عن رؤوس حامية، لكنّ موجاتها العاتية ليس من السهل أن تجرّ بلغراد إلى حرب جديدة في البلقان لأنّها ذاقت سابقاً الأمرّين بسبب الغارات الأطلسية التي دمّرت البنية التحتية الصربية وألحقت بها خسائر فادحة.

إقرأ أيضاً: تركيا دولـة عـظـمـى؟

يدرك الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش مدى الآثار المدمّرة عليه وعلى بلده، لذا يبدو عليه التخبّط وعدم الجرأة على الانجرار إلى تحالف مع موسكو معاكس للتوجّه الأوروبي العامّ. فمثال المحكمة الدولية لمحاكمة قادة يوغوسلافيا السابقين ما زال ماثلاً للعيان، وما زالت نماذجه تقضّ مضاجع نوم المتطرّفين الصرب.
لذلك سعى الرئيس فوتشيتش في قمّة “المجمع السياسي الأوروبي” الثاني المنعقد في العاصمة المولدوفيّة كيشيناو إلى إظهار مرونة والموافقة على لقاء رئيسة كوسوفو فيوسا عثماني التي صرّحت أنّها تعمل على احتواء الموقف، مخفّفاً من شروطه العديدة المسبقة إلى حـدّ حصرها بـ”انسحاب رؤساء البلديّات المنتخبين في شمالي كوسوفو”. فالرئيس الصربي فوتشيتش يدرك أنّه لا يمكنه الذهاب بعيداً في إنكار وجود كوسوفو بصفتها دولة مستقلّة ذات سيادة. ويعلم فوتشيتش تمام العلم عواقب إشعال الفتيل مجدّداً.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر:  BadihYounes@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…